عاجل

فيلم “صوت هند رجب” يفوز بـ “الأسد الفضي” في مهرجان البندقية السينمائي
تصعيد جديد مع مصر.. إثيوبيا تطمح لاستعادة “السيطرة” على البحر الأحمر
مصر تتحدى إسرائيل: مخطط التهجير لن يحدث شاء من شاء وأبى من أبى
مظاهرة حاشدة في باريس تطالب باستقالة ماكرون ورئيس وزرائه
“أطفالكم في خطر”.. الأزهر يطلق تحذيرا عاجلا
“الأونروا” تحذر وتدعو “لإغراق” قطاع غزة بالمساعدات فورا
مصر تؤكد أن “مسألة التهجير خط أحمر” وسط دعوات إسرائيلية لإخلاء مدينة غزة
بكلمة واحدة.. نجيب ساويرس يرد على سؤال بشأن رضاه عن منتخب مصر
# سلامٌ الاستغناء
ترامب : بعض الرهائن ربما ماتوا مؤخرًا في غزة والمفاوضات جارية الآن
مادورو: فنزويلا مستعدة للكفاح المسلح إذا تعرضت لهجوم أمريكي
الجامعة العربية: لا تعايش في المنطقة مع احتلال إسرائيل لأراض عربية وسعيها لضم أخرى
مانشستر سيتي يتغزل بعمر مرموش بعد هدفه في مرمى إثيوبيا
هل يشعل نزع سلاح حزب الله فتيل صراع جديد في لبنان؟
الأحد 7 سبتمبر.. حفل توقيع ومناقشة كتاب “قبل المأذون” للدكتورة آمال إبراهيم بمكتبة القاهرة بالزمالك

بين مصر والسودان.. حوار ثقافي ليس عابرًا

كتب – محمد شعبان:

 

 

مقال عمار علي حسن

طالما ساقت الأخطار مصر والسودان إلى ارتياد مساحة من التفاهم القوى الجلى، ولهذا شهدنا فى الشهور الأخيرة لقاءات قمة، واجتماعات لكبار المسؤولين، ومناورات عسكرية مشتركة، لكن الروابط الأعمق تكون بين الشعوب، إذ تتقلب السياسة بلا هوادة، وتتغير المصالح، ويأتى جفاء ويذهب، أما تفاهم الناس فهو الأدوم، ولاسيما إن بعث الثقافة من مرقدها لتؤدى دورها المستبعَد. فهنا نجد رياحًا وروحًا طيبة يحملها السودانيون حيال مصر، ويحملها المصريون حيال السودان، ولاسيما فى أيام الشدة، غير منساقين وراء دعايات مريضة، تريد بث الفرقة بين الشعبين، وتُصدِّر صورًا تاريخية مغلوطة.

ويمكننى فى هذا المقام أن أذكر واقعة واحدة لمست فيها هذا عن كثب، فذات يوم حاول البعض أن يطلق فُرقة فى فضاء ندوة حاشدة بقصر الثقافة، باستدعاء أفكار متعصبة، ردًا على الأديب المصرى الكبير محمد المنسى قنديل، حين تحدث عن العبودية، من واقع روايته البديعة «كتيبة سوداء»، وكيف كان تجار الرقيق يأسرون الناس عنوة من جنوب السودان وأبعد منها فى عمق القارة السمراء، ويحملونهم إلى سوق الجلابة بالقاهرة قبل قرون.
قبلها كان «قنديل» محل حفاوة من كل الذين يقابلونه، مُذكِّرين إياه بكتاباته التراثية فى مجلة «الدوحة»، حين تولى السودانى الدكتور محمد إبراهيم الشوش رئاسة تحريرها بتزكية من الروائى الكبير الطيب صالح.
توالت المداخلات التى تنتقد «قنديل»، وهو يقابلها بابتسامة لأنه واثق أنه لم يقصد إساءة لأحد، وأنه ما كتب هذه الرواية سوى لمقت العنصرية، وإدانة تجار الرقيق، وعقلية الاسترقاق، والانتصار لحرية الإنسان، إلى جانب الأهداف الفنية التى دعته إلى إبداعها.
طلبت مداخلة، وقدمت نفسى قائلًا: عمار على حسن من وادى النيل، فصفق الجالسون. كنت قد ذهبت لأتسلم جائزة «الطيب صالح» عن رواية «بيت السنارى»، وبطلها هو رجل سودانى اسمه «إبراهيم السنارى»، بِيع فى سوق الرقيق، واشتهر بأعمال التنجيم، فتقرب من علية القوم، حتى صار نائب حاكم القاهرة، والذى كان وقتها هو مراد بك، ثم بنى بيتًا فخيمًا بمعيار زمنه. وكان البعض قد سمع عن روايتى هذه، فقلت حكايتها باختصار، وتحدثت عن سودانيين دخلوا قلوب المصريين وتاريخهم، مثل إبراهيم السنارى، ومحمد أحمد المهدى، ومحمد عثمان البرهانى، ومحمد الفيتورى، والطيب صالح، وكان أول رئيس لمصر بعد يوليو 1952 محمد نجيب جسرًا بين البلدين، فأبوه مصرى، ووالدته سودانية، وبدا للمصريين كأنه قد أتى إلى القاهرة صغيرًا سابحًا فى مياه النيل، فسكن ماؤه العذب شرايينه، وسكن طميه مسام جلده.
واصلت كلامى: اعتبرونى عضوًا فى حزب الاتحاد السودانى. كنت أعرف طرفًا من تاريخ هذا الحزب، الذى أضعفته الأيام، وكيف تقوم عقيدته السياسية على الدفاع عن وحدة السودان ومصر، فراق قولى للجالسين، فصفقوا مرة أخرى. وبعدها اختلفت لهجة المداخلات، وتحدث الناس عما يجمع بينهم، لا ما يفرق، وتغاضوا، ولو مؤقتًا، عن الإحن التى صنعها نابشو التاريخ، وتجار الأزمات السياسية، ومروجو ثقافة الكراهية، والناظرون إلى الشين فى كل شىء.
كان هذا النقاش يجرى فى قاعة ليس بينها وبين مجرى النيل سوى شارع ليس واسعًا، تجرى عليه السيارات فى الاتجاهين، وعلى مقربة منها كان يقع بيت رئيس الجمهورية، وكان فى الأصل بيت مهندس الرى المصرى، الذى أقام سنوات طويلة فى الخرطوم قبل الانفصال عن مصر عام 1956، ليصبح السودان دولة مستقلة ذات سيادة. الرئيس فى بيت الرى، والقاعة إلى جوار النيل، والنهر يجرى من هناك إلى هنا. يقطع السودان بطوله، ومصر كذلك، كالأورطى، ذلك الشريان الذى يوصل الدم إلى الجسم كله، إنه جسم كتلة جغرافية واحدة جمعها النيل والتاريخ والهجرات المتبادلة والانشغال والتزاوج.
النيل هناك بكر، يجرى فى براح، لم يمسسه سوء. ماء عفِىّ، على جانبيه شاطئ مطروح هادئ، وجسر عالٍ، يليه شارع واسع، ثم تطل البنايات من بعيد. على مسافات متباعدة يمكن أن تجد بيتًا صغيرًا يريد أن يقترب من الماء، لكن الشجر الذى يكسوه يجعل بينه وبين المكان ألفة وتراحمًا. قلت لأصدقائى من السودانيين: أتمنى ألا تفسدوا النهر مثلما فعلنا نحن، حين زحفنا عليه بالحديد والأسمنت حتى اختنق.
أتذكر كيف أنى رأيت فى زياراتى الثلاث للخرطوم أن الأغلبية الكاسحة لأهل السودان هم من أطيب وأنبل وأوعى العرب، يحبون الحياة، وتنطوى جوانحهم على تسامح، وينصرف سلوكهم دومًا إلى تعاون وتراحم بينهم، عاشرتهم فى الغربة حيث منافيهم، وخالطتهم فى بلدهم، وسمعت شكواهم من سلطات فاسدة مستبدة تعاقبت عليهم، وحرمتهم من خيرات بلدهم المنهوبة والمنسية. أيام ثورتهم كافح السودانيون فى عزلة واكتفاء واستغناء عن العالمين، راحوا يتصدون للرصاص بصدور عارية، كشعراء حالمين، بعد أن ضاقوا بسلطة تملك منها شعور زائف بالاستعلاء، ونهم دائم إلى التوحش والاستئثار بكل شىء، والبقاء فى الكراسى إلى الأبد. سلطة حرمتهم من أن يتحدثوا بعفو الخاطر كعادتهم، ويختلفوا كيفما شاءوا، وكل منهم سعيد وفخور بقدرته على إظهار اختلافه.
قديمًا كانوا يقولون إذا اجتمع سودانيان كوّنا ثلاثة أحزاب، وهى عبارة كانت تُطلق على الفرنسيين، لكن هذا لا يعنى فى كل الأحوال التشتت والتفرق، إنما الاعتداد بالرأى، وربما كان هذا جرّاء غياب التنظيم المقنع للناس، سواء كان حزبًا أو حركة، لكن هؤلاء أنفسهم حين وجدوا فى القرن التاسع عشر رجلًا دخل قلوبهم، ورفع راية استقلال بلادهم، وهو «المهدى»، انضووا فى طريقته الصوفية، وقاتلوا إلى جانبه، وهو يعدهم بتخليص السودان من الإنجليز، ثم السير بجيشه لطردهم من مصر أيضًا.

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net