بقلم دكتورة / أماني فؤاد
يستطيع بعض الروائيين التوسع في تشكيل البنْية والصراع في النَّص السردي، ليس فقط في حدود الشخصيات الرئيسة، بل بمد شبَكة علاقات متسعة ومتشعبة من الشخصيات الثانوية، والحكايات التي تتناسل، في حين يختار آخَرون عدد محدود من الشخصيات، واللعب الرأسي في حياة الشخوص، والمواضيع والتركيز على فكرة أو اثنتين.
تحشد عزة رشاد في روايتها “بالحبر الطائر” الكثير من الشخوص والموضوعات، شبَكة واسعة من الشخصيات الرئيسة والثانوية، وحشْد قصصهم الفرعية لإبراز تحولات المجتمع المصري (الدينية ـ الاجتماعية)، بما يتضمَّنه هذا التعدد من تفاوت المستويات الثقافية والمعرفية لشخصيات القص.
ربما استدعى هذا الزحام ثراءً في القص، وغنى في طرح الحالات الإنسانية، لكنه يستدعي تساؤلًا آخر: لماذا علينا أن نقول كل شيء، شهوة ألا نترك قضية؟ أحيانًا ما يكون هذا الحشد مدعاة لتشتت تركيز القارئ.
وتتبدى مجموعة من البنَى الدالة في النص، يمكن استخلاصها في:
ــ أنانية الرجال والإصرار على التحكم في النساء، واستخدامهن بأشكال شتى، في الشرق أو الغرب، تتفاوت الدرجات فقط.
ــ عدم قابلية الشرقيين لتطوير أفكارهم، رغم وعيهم بتكلسها، يحجمون عن الحقوق. فتظَل الأفكار الرجعية حول المرأة تتحكم في حيواتهن التي لا يسعدن فيها ولا يتحققن، فيكتظ السرد بشكوى النساء: الزوجة والأم والبنات، القمع والمحظورات المتعددة، فلا يستطعن التعبير عمَّا تتعرضن له من تحرُّش أو حرمان أو قمْع. مما يترك آثاره وعُقَده على نظرتها لنفسها فسيولوجيًّا وسيكولوجيًّا.
ــ الحياة ليست عادلة، حيث تتجسد شخصية “نسمة” نموذجًا جليًّا. كما يتجلى الإنسان كائنًا هشًّا، ذاتيا، يحترف الكذب.
ــ يُظهر النَّص صدوعات متفاوتةَ العمق في بنْية شخصيات العمل، كأن تختفي نورا؛ ابنة نوجة، بعد أن رفضت والدة حبيبها ديفيد ارتباطه بها، وهدَّد والدها عبد الرحمن بقتلها لو تزوجته، ارتَدَت النقاب واختفت، رافضة أيِّ تدخُّل من أهلها في حياتها.
في النماذج النسائية المقدَّمة في رواية “بالحبر الطائر”، لم تستطع أية شخصية منهن تحقيق حلمها، اقتصر دور نجوى بعد سَفرها لأمريكا على علاقات عاطفية فاشلة، إلى أن تزوجت عبد الرحمن؛ الأصغر والأقصر منها، وأنجبت منه نور، وغرقت في حُمى الشراء وحياة التسلع؛ تعويضًا عن اليُتم والحرمان، وشعور بفراغ شاسع في روحها، تعيش في نيويورك لكن أحلامها، حتى في يقظتها، بجدتها سندس، التي ربَّتها، ورسَّخت فيها موروثًا جمعيًّا ممتدًا، تختفي ابنتها، لتحلم نجوى -التي أصيبت بآلزهايمر- إنها قتلتها بيديها، نجوى التي تزوَّج والدُها بمجرد وفاة أمها؛ وعاشت على الهامش مع زوجة أب، فتشعر بالانكسار بالرغم من شجاعتها وقدرتها على المواجهة، والتعبير عن ذاتها والآخَرين، بعكس صديقتها نعيمة التي ولدت لعائلة من الطبقة الوسطى العليا، وصارت أكاديمية، لكنها ظَلت تعاني من عدم قدرتها على التعبير عن ذاتها، أو المواجهة؛ نظرًا لانتقادات أمها الدائمة لها، واعتراضها على كل ما تفعله، وإحاطتها بالتعليمات الكثيرة، وهو ما انطبع على شخصيتها، حتى في عملها الأكاديمي مع رؤسائها، وظَهر أيضًا في هذه الأكزيما أو الحساسية، التي تنتابها كنوع من الرفض والمقاومة النفسية لأية سُلطة.
لم تستطع نادين أن تكون المطربة التي تمنت، رغم عشقها للغناء، اكتفت بدورها كزوجة وأم لثلاثة من الأبناء، انتقلت مع زوجها للكويت ثم باريس، تدبِّر الحياة وتقتصد بتشجيع من زوجها، الذي قلَّص وجودها في هذه الحدود الأسرية والاجتماعية، في نطاق الجيتو العربي في باريس، ينتقل ابنها للعيش بعيدًا عنهم؛ اعتراضًا على أسلوب حياتهم، الذي لم يفارقوا فيه ثقافتهم، التي حملوها معهم في باريس، أجسادهم هنا على الأرض الباريسية، لكن وعيهم وثقافتهم وأسلوب حيواتهم هناك في المزاريطة والإسكندرية، يقرِّر زوجها سَفرها بابنتَيه إلى الأسكندرية؛ خوفًا من ارتباطهما بعلاقات متحررة في باريس، وهو ما يشعِرها إنها عاشت حياتها كقيمة هامشية، يحركها زوجها، دون مراعاة لإرادتها.
خلقت “نسمة” بمتلازمة تيرنر، غير مكتملة الأنوثة، ولا أمل لها أن تصبح أُمًّا؛ فتحاول تعويض النقص، تقرِّر الهجرة والسفر إلى لندن، بمساعدة خالها، ضمْن منحة لإعاشة وتأهيل مَن لهم نفس حالاتها، تتعرف على عامر الباكستاني، المعاق جرَّاء تعرُّضه لانفجار أثناء الحرب، في وطنه، يتزوجا ثم يتركها حين تكتشف أنه متزوج ولديه أولاد، كذب عليها بحجة إنها لم تسأله. ثم تعاود الزواج على الورق من برنارد؛ حقوقي يندد بالعولمة والاستهلاك، يتزوجها ليعيش وصديقه ألبرت معها في شقتها، وضْع شاذ يستنكره الجيتو العربي المحيط بها.
تقول نجوى لزوجها: “لن نكون سوى أنفسنا، لسنا مثل العرب الذين يعيشون هنا ويرفضون العودة قطعيًّا. وبنفس الوقت يضاعفون ليل نهار نقمتهم على أمريكا. لسنا أيضًا متعالين أنانيين كبعض الأمريكيين، أنت ولدت هنا. وأنا أسعى لأكون ابنة لهذا البلد وقوانينه المنصفة. إلى حد كبير. سأعيش وأموت وأدفَن هنا.”. يعيش العرب في الغرب لكنهم يحملون الشرق بتقاليده ومنظومته الثقافية؛ وهو ما يضاعف شعورهم بالضياع. لا يستطيعون تجاوُز حدودهم النفسية الداخلية، خاصة عندما لا يحدُث اندماج حقيقي بينهم وبين المواطنين الأصليين، ورغم كل دعاوى الحرية، وتساوي الفرص في المجتمعات الغربية، فإن الواقع، وغطرسة الغرب وتعاليهم، يجعل همَّهم الأكبر مجرد الحياة وتوفير الطعام.
وينتاب شخصيات الرجال في النَّص، شعور بالسيولة وعدم الجدوى؛ حسام زوج نعيمة، وابنها ناجي، يتبدى لديهما الانفكاك من الروابط الأُسرية، وشعور متنامٍ بالذاتية والأنانية، والرغبة في الانفصال عمَّا يربطه بوالدَيه، أو بأيِّ قيمة بالحياة، يقول ناجي: ”منذ فترة بعيدة، اتخذت قرارًا بألا صلة لي بأي شيء يخصكم، بأني لن أحزن ولن أفرح، إن اكتشفت أن أبي ــ أو أمي.. سيان ــ مجرم، أو حتى قديس، ما من فرق. اتخذت قرارا بألا أنظر ورائي وألا أفكر في شيء ولا في أحد سوى نفسي، ففي كل المرات التي عانيت فيها؛ لم أجد اهتمامًا أو مواساة”.
وتتبدى الأجيال الجديدة ساخطة، متمردة على حياة الآباء، ينتقدون كل شيء سواء في مصر أو نيويورك أو لندن، وهو مؤشِّرٌ على الانفصال، وتضخم الذاتية والأنانية.
كما تتجسد شخصية حسام إدريس؛ المناضل والكاتب، ادعائيةً؛ فقَدْ أحَب نجوى أيام الجامعة، ثم انفصلا، وتزوج من نعيمة صديقتهما، لم يتحمل مسئولية شيء، يقول عنه ابنه ناجي: ”مصاريف دراستي وكسوتي تدفعهم أمي، لأن أبي يعيش بوهيميًّا من أجْل الإبداع.
ويتسيد الزيف المشهد العام، حيث محاولة كل سيدة أن تبدو أمام الأخريات على الوجه الأكمل، عكس واقعهن، تغلفن ذواتهن بسطح براق، لكن الواقع يحبطهن؛ يخشين البوح الحقيقي أمام بعضهن، أو التعري، ولذا أصيب الموقع بالاختناق، بدا متقطع الأنفاس، يخبو سريعا، ولذا سادت فقرات المنولوج الطويل بين كل شخصية وذاتها.