بقلم دكتورة / أماني فؤاد
بعض المجموعات القصصية القليلة فقط هي ما تترك في وعي القارئ وذاكرته شعورا عجائبيا، قد يتسلل خوفا ما من طريقة السرد والأحداث وبنية الشخوص، أو غضبا، وشعورا بالتوجس والترقب من نزوع الشخصيات وأفعالهم المخفية، تلك التي تُفهم ضمنا من المناطق البيضاء التي بين أسطر حكي القصص، قد تأخذك تقنيات السرد “الزمن، والمكان، والمفارقات، وطرق الحبكة” في متاهات، أو تدفع السلوكيات والوعي الموروث والأحداث بالغضب والرفض بداخلك، كثير من هذه المشاعر المتداخلة تستقر بعد قراءة نصوص مجموعة “ثلاث نساء في غرفة واحدة” لهناء متولي، حيث ترصد الكاتبة لعالم النساء عبر أنواع الصراع مع الرجل، عبر أيديولوجية الرجل ورؤيته حيث “استخدام المرأة بحسبانها النوع الأكثر ضعفا وإمكانية التهميش، لا العيش معها كشريك”.
ويظلِّل بعض قصص هذه المجموعة طقْس غير اعتيادي، حيث شيوع العجائبية والأحلام بسرياليتها المنطلِقة دون قيْد، منطِق اللامعقول، تِسْع قصص تسحبهن الكاتبة لمناطق الفنتازيا والواقعية السحرية، وتدلل تلك المساحات مع النصوص الأخرى الواقعية على كيفية أن الاختلاف بين النوعين في الجنس البشري، المرأة والرجل لا يقتصر على الطبيعة البيولوجية، قد ما ينبع من الاختلافات الثقافية
بمعناها الواسع، هذا الذي يشمل الموروث الاجتماعي التاريخي، والايديولوجيا التي تحرك وعي كلا الجنسين.
ففي نَصِّ “يوميات امرأة تشرب خَلَّ التفاح” يمكنني رصد التداخُل الذي وَرَدَ في القصة ما بين التسمُّم من جرَّاء السمك المملَّح الفاسد، الذي تناوَلته العائلة، والذي تصِفه الكاتبة بأنه صُنِع بحُب، وقول القاصة “ومِن الحُب ما قتَل.” وهو ما يدفع القارئَ للتفكير في فسادِ كثيرٍ ممَّا ترسِّخه وتنقله الأمهات والجدَّات لبناتهن، حالة من الموروث المسمَّم. الجديد هنا اللا تعاطف حتى مع الأم التي تموت وهي تعاني من التسمم.
ونلحظ – في هذا النَّص، كما في أكثر النصوص – الإشاراتِ المتكررةَ لأعضاء المرأة التناسلية، وانتهاكها المتكرِّر، وهو ما يترُك آثارًا نفسية عميقة على تدمير كيان المرأة، ففي نَصِّ “البكاء على حافة اليقظة” تقول: “سَيْل الدماء الذي على ساقَيها لم يكن كافيًا لتصديق ما حدَث، من المؤكَّد أنه كابوس، .. الألم الذي بين ساقَيها يعتصرها.. جسَدها ينتفض..، رائحة عفِنة وأصابع غليظة تحتلُّ جسَدَها.. الرؤية مشوَّشة، أو ربما فقَدَت بصَرَها.. يقلِبُها على وجْهها.. يجذِب شَعرَها بعُنف.. ويكمل ما بدأ.” (88) تكرار هذه الأوصاف يصوِّب مباشرة على الانتهاكات الجسدية، التي تعاني منها النساء، فالمرأة لا تنجو من الجميع. في هذه القصة الأخيرة أرجِّح أن القاصة تشير إلى شخصية الخال بشكلٍ ما.
تتبدَّى محصِلة كل ما تُورِده نادرين في قصة “يوميات امرأة تشرب خل التفاح” في تحديثاتها وأوراق يومياتها في قولها: “من المؤسِف حقًّا أن لا تنتمي لشيء محدَّد كوطن، أو معتقَد، أو حتى عائلة، لكن الأكثر سوءًا أن تشعُر أنك لا تنتمي إلى هذه اللحظة التي تعيش فيها.” (104) الغربة والحياد النفسي، وربما الغضب العميق
والرفض هي المعاني التي تسيطر على وجود مثل تلك الشخصيات النسائية، التي تتكرر بأشكال مختلِفة في هذه المجموعة.
ــ في قصتها “نساء ملوَّنة” تتغير الجغرافيا؛ حيث الأماكن المختلِفة، كما تتغير الأزمنة، لكنَّ الثبات في تقنية القَصِّ لثلاث نساء: الصهباء والشقراء والسمراء، ومنذ قديم الأزل، وحتى الآن، تصدُر عنهن ردودُ فِعلٍ مختلِفة ومتضاربة تجاه الرجُل، منذ المَسكَن الحجري، أو في ملهًى ليلي، أو غرفة في بيت شَعبي، في الماضي أو لحظتنا الزمنية التي نعيشها، اختلاف النساء دائمًا ما يجعلهن لا يأتين فِعلًا في مواجهة غطرسة الرجُل وتحكُّمه، فالرجال أذكياء، وموروثهم – الذي سيطروا به على الوعي الجمعي، حتى وعي النساء أنفسهن – ممتدد وعميق؛ لتراكُمه، فلطالما أدخلوا في عقْل النساء غَيرتهن من بعضهن، وأن المرأة لا يروقها أن ترى أخرى أجمل أو أكثر غِنًى أو عِلْم أو نَسَبٍ؛ لتستمر خلافات النساء، ويظَل الرجُل رابحًا بسياسة فَرِّق، وازْرع الشكَّ؛ لِتَسُودَ. تقول السمراء: “يا غافلات، استمِرَّا في شِجاركما بينما تتركانه يدبِّر لزيجة جديدة، الشقراء: سأقتل نفسي إن فعَل. السمراء: بل نقتله. الصهباء: هذا هو العدل.” (111، 102) حيث يقدِّم النَّص معادَلةً بين قوة الرجُل من جِهة، وتحايُل النساء من جِهة أخرى، وسذاجة الكثيرات منهن، ونفعية بعضهن أيضًا. حيث يفصِح النَّص عن خَلَل اجتماعي وثقافي عميق. الثابت – في هذه القصة – النساءُ، والمتغيِّر فيها الزمانُ والمكان. تنويعًا على قصة (الخامسة مساء) الثابت هو الزمن، يوم 22 مارس، والساعة الخامسة، الثابت هو الفجيعة والبؤس، المتغيِّر هو البَشر والأحداث والأماكن.
ــ في قصتها “حيوات عديدة لجسد وحيد”، تتحدث القاصة عن روح عارية شفافة، باهتة لدرجة أن الناس لا تنتبه لوجودها. وهي إذْ تحكي حكايتَها؛ تلعب بتقنية القَص
وفْق فكرة تعدُّد الأرواح، أو إعادة بعْثها كل مَرَّة بشكل وجوهر جديد؛ حيث اختارت روح امرأة مثيرة لعوب، أو روح ضفدعة، أو طائر للزينة، تقول القاصة فيما تنثره من أقوال في القَص: “الحرية مجاز لا يمُت للواقع بصِلة”، كما تصِف الجَمال بقولها: “ليس الجَمال أهم الأشياء، الحضور والثقة والشخصية يسبقونه بدرجات، وهي شفَّافة جدًا لدرجة أنها لم تستطع الاحتفاظ بأيٍّ من هذه الأشياء داخل خزانة رحلتها الكونية.” (95)، في جل قصص هذه المجموعة تستخدم القاصة تقنية الراوية العليمة، أو الساردة المفارقة التي ترصد قصص هؤلاء النساء وأحوالهن، وهو ما يتيح أن تتبادل الراوية مع الكاتبة المواقع ويتداخلا طوال الوقت، بمعنى أنك تستطيع أن ترى (هناء متولي) الكاتبة في أطياف هذه الراوية المفارقة، وتلمح المنظور النسوي في رؤية الكتابة ومنطلقاتها، ووجهات النظر التي تُطرح بالقصص، كما التفاصيل النسوية في ثنايا الحكي.
وتحتشد هذه المجموعةُ بمقولات صادمة، تتعمَّد خربشة الصور، التي تبدو برَّاقة من سطْحها، تكشفها، حتى أنها – في نهاية قَصِّ لعبة الأرواح – تُبرِز أنانية الإنسان الذي قيَّد روحَ عصفور الزينة، الذي اختارته الشخصية لتكونه، تقول: “ليتني أُبعَث حاكمًا؛ لأحبِس بقية البَشر.” (98)
وتفوز تقنيات المسرح بنصيب كبير في قصص المجموعة بطريقة مباشرة، حين تعتمد القاصة على تكوين المَشاهد وخلفيَّاتها وموسيقاها التصويرية، أو تضمُّن القَصِّ للحوار وتعدُّد الأصوات المضغم في الراوية العليمة، الساردة التي ترى وتعلم الملابسات كافة، مثل قِصتَي “الخامسة مساء” و”دموع الكراميل”، ففي القصة الأخيرة يقول الراوي، وهو يصِف الوسَط الذي ستجري فيه المَشاهد: “… صورة معلَّقة لرجُل
حسَن الطلَّة، عليها شارَة حِداد، بجوار صورة زفاف، قديمة بعض الشيء لنفس الرجُل، رجُل بدين، رجُل نحيف، مقلاة تحرِق السكَّر، بيض يذوب في اللبن.”(35)
هذا الجمع بين صورتَي الرجُل الذي توفِّى وتحولاته، والمقلاة التي تحرق السكَّر في خلفية المشهَد ذاته؛ يخلِّق طقسًا غرئبيًّا، يتوقَّع معه القارئ أن أمرًا ما غامضًا سيأتي، وهو ما يدفع بعُنصر التشويق في القَص، ويكسِر التوقُّع.
وفي خِضَم غرام القاصة بالبدْء بالنهايات، ثم العودة بالفلاش باك، تقسِّم الكاتبة النَّصَّ إلى مَشاهدَ: قبْل النهاية بأسبوع واحد، وقبْلها بيوم واحد، ثم في وقت مبهَم، حيث تحدِّد هذه التقسيماتُ الزمنية المحدَّدة وغير المحدَّدة الإطارَ الزمنيَّ للأحداث وتغيُّراتها.
وأحسَب أن قرار نهاية الزوج قد أضْمَرته الزوجة حين كان ضيوفه يثنون على طهْي امرأته، فيرد الزوج مقهقِهًا بسخرية، يقول: “من العدل أن تجيد شيئًا ما يشتِّت الانتباهَ عن فَشَلها في إنجاب طفل كبقية الثدييات.”(38) وتحت عنوان “في الوقت المبهَم” يقول الزوج لزوجته: “لقد نسيتِ أن تُعِدِّي الكريم كراميل.. أريد تناوُلَه الآن وفورًا.” (39) تُعِدُّه السيدة وهي تبكي، يلتهمه الزوج سريعًا، تتدلى رأس الزوج على صدره، ليظهَر في الخلفية صوتٌ لامرأة تدندن لحنًا فرنسيًّا جنائزيًّا.
تهيمن تيمة الانتقام على معظم قصص هذه المجموعة، الشعور الطبيعي جرَّاء الكثير من الانتهاكات والخذلان، من الأوامر والإهانات؛ إمعانًا في جرْح المرأة، كأنها جارية وبلا مشاعر، فيُطِل القتل بوجْهه المظلِم.