بقلم دكتورة / الهام سيف الدولة حمدان
عندما يتحدث مصري عن وطنه ومسقط رأسه بالإعزاز والتبجيل؛ فقد يردد من يستمع إليه العبارة الشهيرة التي تقول : إن شهادته مجروحة؛ أي تحكمها العاطفة ورابطة الانتماء للأهل والأصحاب، ولكن عندما تأتي تلك الشهادة من علماء الاجتماع أصحاب البحث في علم الوراثة والجينات؛ فإنها تكون بمثابة الاعتراف الموثق بالعلم الأكاديمي؛ بجدارة هذا الوطن بما يستحقه من ألقاب التعظيم والتفخيم .
وكلنا يعرف العبارة الشهيرة التي تقول: “مصرأم الدنيا”؛ فتلك التسمية تعود إلى السيدة هاجر زوج سيدنا إبراهيم الخليل، وأم سيدنا إسماعيل، عليهما السلام، وكان يطلق عليها أم العرب، حيث أنها كانت مصرية ومن قرية اسمها الفرما، وكما جاء فى الروايات التاريخية أن هذه القرية اندثرت وتعرف آثارها اليوم بـ “تل الفرما”، وكان سيدنا إسماعيل يطلق عليه أيضا أبو العرب، وصارت العرب كافة من أصول مصرية منسوبين إلى أمهم هاجروأبوهم إسماعيل فانتشرلقب ” أم الدنيا “على مصر .
وهي عبارة لم تقل جزافًا؛ فقد اكتشف العلماء أن أول من انتصب على قدمية لأول مرة قبل ملايين السنين في الشرق الأفريقي؛ وملأوا الأرض منتشرين بجنسهم فيها، لا من الجزيرة العربية التي “عبروا إليها من مضيق باب المندب” كما كانت النظريات السابقة تقول، بل من مصر التي مضوا إليها من إثيوبيا شمالاً، ومنها توزعوا في آسيا وأوروبا. أي أن المصري يُعد هو الجد الأكبر للأوربيين والآسيويين، وأن الجينات التي تبرعمت على هذه الأراضي قبل ملايين السنين؛ هي من جينات المصريين العظماء الأوائل .
وبرغم هذه الحقائق التي لاتقبل الجدل، نجد على صفحات التواصل الاجتماعي، وبعض أعمدة الصحف الصفراء المأجورة؛ والمجنَّدة لخدمة توجهات وأغراض الهدم التي لم تعد تخفى على أحد؛ ممن يحاولون ليْ هذه الحقائق لحساب من يعملون على تشويه صورة مصرفي المرحلة الصعبة الآنية، ومعايرتها ببعض المشاكل المؤقتة التي تراكمت خلال السنوات الماضية، ولا هم لهم سوى وضع العصا في عجلة حركة التاريخ، لإفشال المرحلة الحالية بقيادتها الوطنية . ولكني أدعوهؤلاء إلى قراءة واستيعاب ماشهد به القاصي والداني على مر التاريخ .
وأبدأ بما نقله «المقريزي» في كتابه «الخطط والآثار» وهومن أجمل ما قرأت فى الكلام عن أم الدنيا مصر: «مصر متوسطة الدنيا قد سلمت من حرّ الإقليم الأوّل والثاني ومن برد الإقليم السادس والسابع ووقعت في الإقليم الثالث فطاب هواها وضعف حرّها وخف بردها وسلم أهلها…»، وهذا بعض مما ذكر من كلام ودعاء بعض الأنبياء عليهم السلام لمصر وسر تسميتها بأم البلاد: دعاء نوح عليه السلام لها قال عبدالله بن عباس : «دعا نوح عليه السلام لابنه بيصر بن حام أبومصر فقال اللهم إنه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض الطيبة المباركة التى هي أم البلاد، وقال عبدالله بن عمرو: لما خلق الله آدم مثل له الدنيا شرقها وغربها وسهلها وجبلها وأنهارها وبحارها وبنائها وخرابها ومن يسكنها من الأمم ومن يملكها من الملوك،فلما رأى مصر رآها أرضَا سهلة ذات نهر جارٍ مادته من الجنة تنحدر فيه البركة وتمزجه الرحمة…»، وقال السيوطي في كتاب «الخطط» : يقال إن »مصر خزائن الأرض كلها فمن أرادها بسوء قصمه الله»، وأما عما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فسأكتفي بالحديث الصحيح الذى ورد في صحيح مسلم عن أبي ذر : «إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحمًا». وعن عمر بن الخطاب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفاً فذلك خير أجناد الأرض فقال : ولم يارسول الله قال لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة. وهذا ما دار بين عمر بن الخطاب ووالي مصر عمروبن العاص حيث كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص قائلا”: «أما بعد فإني قد فكرت في بلدك وهي أرض واسعة عريضة رفيعة، قد أعطى الله أهلها عددًا وجلدًا وقوة في البروالبحر، قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملاً محكمًا، وأحب أن تكتب لي بصفة أرضك كأني أنظر إليها، والسلام».
ولعلنا نذكِّر هؤلاء الموتورين الذين لا هم لهم سوى الكذب والافتراء على مصر، بأنه كان بها الخليل إبراهيم، وإسماعيل وإدريس ويعقوب ويوسف واثنا عشر سبطًًا، وولد بها موسى وهارون ودانيال وأرميا ولقمان، وكان بها الخضر وآسيا امرأة فرعون وأم إسحاق ومريم ابنة عمران، وماشطة بنت فرعون، ومن مصر تزوج إبراهيم الخليل هاجر أم اسماعيل وتزوج يوسف من زليخا، ومنها أهدى المقوقس الرسول عليه الصلاة والسلام مارية القبطية فتزوجها وأنجبت له إبراهيم .
أيها الأقزام : يا من تتطاولون على مصر، هذه مصر؟ هي من علمت العالم كله الحضارة، وهي بلد الأديان التى احتضنت العذراء،وقادها يوسف، وموضع الكليم موسى، وأوصى بها الرسول. مصر من حاربت اسرائيل دفاعاً عن فلسطين، مصر التى دافعت عن الإسلام ضد التتار، وهي من دفعت الثمن من دماء أولادها وقوتها من أجل العرب، وسُرقت مواردها قرونًا، وما زال شعبها العظيم قادرًا على مواصلة الحياة وتنميتها ، نحن شعب نثوروننفجر في وجه الطغيان من أجل الحرية ، قد نسامح أحيانًا ويأخذنا الصبرأزمانًا، ولكننا بركان نارعلى كل الأعداء، مصر أسد العرب، قد تمرض أحيانا ولكنها أبدًا لن تموت !
أستاذ العلوم اللغوية ــ أكاديمية الفنون