كتب د / حسن اللبان
في العالم، ليس هناك من هو قادر على وقف إسرائيل المدعومة من الإمبراطورية العظمى التي تتربّع على عرشها دون منازع، ويمسك “الإنجيليون” المسيحانيون بمفاتيح إدارتها الجمهورية الأكثر ضحالة وتطرّفًا. وفي إسرائيل، ليس هناك من يستطيع وقف نتنياهو وحكومته المعزّزة بجناحي التطرّف الديني والسياسي من أتباع الصهيونية الدينية والحريديين. لذلك، فإنّ حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة تتواصل وتشتدّ دون أي بصيص ضوء في آخر النفق يُبشّر بنهايتها.
في هذا السياق، لفتني محلل الشؤون العربية في صحيفة “هآرتس”، تسفي بارئيل، إلى أنّ ذهاب الدول الأوروبية المعارضة لاستمرار الحرب نحو الاعتراف بدولة فلسطينية كتعويض للشعب الفلسطيني، وكعقاب لإسرائيل على نيّتها احتلال غزّة، هو بمثابة هروب من قبل المجتمع الدولي من استحقاق التصدّي الفعلي لوقف الحرب، عبر الوسائل الأكثر نجاعة، التي من شأنها التأثير والضغط على إسرائيل ودفعها إلى إنهاء الحرب، ووضع حدّ للخراب والقتل الجماعي الجاري منذ حوالي السنتين تحت أبصار ومسامع العالم.
ومن هذه الوسائل التي تتحاشى تلك الدول استخدامها ضد إسرائيل، كما يقول، تجميد الاستثمارات، وقف الصفقات التجارية، المقاطعة الأكاديمية، خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي، وقف الرحلات الجوية إلى إسرائيل، وحظر تصدير الأسلحة إليها؛ وهي سلسلة العقوبات ذاتها التي فرضتها الأسرة الدولية، بما فيها الولايات المتحدة، على جنوب إفريقيا، ولاحقًا على دول “مارقة” (وفق تعريفها) مثل عراق صدّام حسين، وسورية بشار الأسد، وإيران، وروسيا، وغيرها.
أما إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فلا ينطوي – برأي الكاتب الإسرائيلي – على أي شيء من شأنه أن يثير مشاعر الفلسطينيين أو يزعزع إسرائيل، خاصّة وأنّ الفيتو الأميركي بانتظار مثل هذا الإعلان في مجلس الأمن، الذي تحتاج الدولة الفلسطينية إلى مصادقته على إقامتها؛ وهو ما يُحوّل إعلان هذه الدول إلى مجرّد بلاغة لغوية فارغة من أي مضمون… وهو بمثابة تمديد لرخصة القتل الممنوحة لإسرائيل، على حدّ قوله.
أمّا على الصعيد الداخلي الإسرائيلي، فبالرغم من انكشاف تحالف المصالح السياسية الحزبية والشخصية التي تجمع نتنياهو وأطراف حكومته، وانفضاح حقيقة توظيف استمرار الحرب في خدمة هذه المصالح التي تتعارض مع الصالح العام، فإنّ حالة العجز التي تعاني منها أحزاب المعارضة، والتي تفتقر إلى عمود فقري سياسي يؤهّلها لتشكيل بديل سلطوي حقيقي، بالإضافة إلى الغطاء السياسي الذي منحته لحكومة نتنياهو في المراحل الأولى والمتوسطة من الحرب، قد أفقدها القدرة والمصداقية على التصدّي لوقفها.
كما أنّ طموح هذه الحكومة، التي تحتوي على تركيبة ديمغرافية – أيديولوجية – سياسية مغايرة، في تغيير طبيعة الدولة العبرية بصيغتها التقليدية التي صاغتها الصهيونية العلمانية البنغوريونية، قد ساهم في إضعاف مؤسسات الدولة، التي شكّلت عادة ضابطًا ورادعًا أمام انفلات القيادة السياسية؛ وبينها الأكاديميا، الصحافة والإعلام، الجهاز القضائي والمحكمة العليا، الأجهزة الأمنية من “الموساد” و”الشاباك” وحتى الجيش، وغيرها من مؤسسات ما يُسمّى بـ”الدولة العميقة”، التي ساهم إضعافها في “تنمّر” القيادة السياسية، خاصّة وأنّها ممثّلة بحكومة تعتقد أنّها تحظى بغطاء أيديولوجي – ديني وتخوض حرب وجود، تستحضر لتبريرها كل الإرث اليهودي القائم على عقدة الملاحقة والإفناء، وهي مدعومة بإدارة أميركية يتشارك رموزها معها ذات الأساطير الدينية.
والحال كذلك، لا غرابة في أن يقوم وزير القضاء، في أوج الحديث عن السيطرة على غزّة واحتلالها، بالسيطرة على أقفال مكتب المستشارة القضائية للحكومة، التي سبق أن صوّتت الحكومة على إنهاء عملها بشكل غير قانوني؛ وأن “يسيطر” وزير الأمن على صلاحية تعيين الجنرالات والرتب الأدنى في الجيش، ويمنع كذلك قائد الأركان من دخول مكتبه. ويكتب ليبرمان، وهو وزير أمن سابق، في هذا السياق، أنّ الهدف هو “احتلال الجيش” والسيطرة عليه، لا احتلال غزّة.
ويعتقد العديد من المعلّقين أنّه بعد النجاح الذي حقّقه بن غفير في تطويع الشرطة وتحويلها إلى أداة وعصا غليظة لتنفيذ سياسة الحكومة في قمع الفلسطينيين والأصوات المعارضة للحرب وتظاهرات عائلات الأسرى الإسرائيليين، يجري التوجّه إلى السيطرة على الجيش وتطويعه سياسيًا، وتحويله إلى أداة لتنفيذ سياسة الحكومة وأحزابها في إطالة أمد الحرب، لا سياسة الدولة ومصالحها. ويرى هؤلاء أنّ إذلال قائد أركان الجيش، بما يمثّله من “بقرة مقدّسة”، هو ذروة جديدة في انتهاك مؤسسات الدولة الذي تمارسه هذه الحكومة.
هؤلاء، وأولئك من معارضة سياسية ومؤسسات قضائية وأمنية ممّن وفّروا الغطاء السياسي والقانوني لنتنياهو وحكومته، لم يدركوا سابقًا أنّ الأخير وائتلافه الحاكم لم يتخلّوا عن حلمهم بتحقيق ما سُمّي بـ”الانقلاب القضائي”، الذي انقسمت إسرائيل حوله قبل السابع من تشرين الأول، بل إنّه نجح في تمريره تحت دخان الحرب وغطاء الإجماع الصهيوني الذي وفّرته له.
ولذلك، فإنّ نتنياهو لا يكتفي باحتلال غزّة، بل هو، في المناسبة ذاتها، يحتلّ المحكمة العليا والقضاء، ويُحكِم قبضته على “الشاباك” والجيش، ويحوّلهم إلى خواتم في أصابع حكومته اليمينية المتطرّفة.