عاجل

لميس الحديدى: رسوم ترامب تشعل موجة من التضخم وارتفاع في الأسعار

# حِيَلُ وتقنيات الحَكْي في سردية “ورثة آل الشيخ”‏

بقلم دكتورة / أماني فؤاد

يستمر الروائي أحمد القرملاوي – في سرديته “ورثة آل الشيخ – في الدفع بطاقة ‏السرد الوصفية المتنوعة الإيقاع، تلك التي تُثري المشهد البصري بانفعالات ‏الأبطال في المواقف المختلفة؛ ففي أحد مشاهد المظاهرات التي اندلعت في ‏القاهرة بعد الحرب العالمية الأولى، في سرْد سريع الإيقاع، خاطِف للأنفاس، ‏يقول واصفًا موت عمِّه الحكمدار صدقي: “ترَك سيارته بمحاذاة المتاريس، ‏ومضى على قدميه مارًّا بمدخل الشارع الأعظم، هناك وجَد خندقًا حفَره الطلبة ‏المجانين؛ لمنْع مرور المدرعات إلى قلْب الجمالية. صاح في بعضهم؛ فلمْ يلتفتوا ‏إليه. خلَع طربوشه وأخذ يقفز فوق الحواجز، تمزَّقت ساقه بسيخ حديدي كان ‏مزروعًا بين عِرقَين من الخشب، صرخ في الفتيان من جديد: “أفسحوا طريقًا ‏للعبور.. من سمَح لكم بعمل المتاريس؟!” صرخة فأخرى، فصوت طلْق ناري ‏يشق الهواء، فصمْت أبدي”67‏
ورغم الامتداد الزمني المتَّسِع لأحداث هذه العائلة، والتي تمتد من الحملة الفرنسية ‏حتى ما بعد ثورة يناير 2011، وبداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين؛ ‏فإن التحولات السياسية في النَّص – رغم بعض الإشارات إليها – لا تأتي إلا ‏كخلفية بعيدة، لا يركِّز عليها الروائي، إلا بقدْر الظلال التي تُلقيها على حياة ‏الأفراد، والتحولات التي تُفرض عليهم.‏
وللكاتب أسلوبه الاختزالي المكثف، حين يضفِّر شأن الأفراد الخاص بالأحداث ‏العامة، يقول الراوي: “وما إن استبدل نشأت بأول رُتبة كتفيّه، الملازم الأول ‏الأكثر أناقة؛ حتى جُنَّ الأوربيون، وانهالوا بمدافعهم فوق رؤوس بعضهم البعض، ‏ما جعَل الإنجليز يضطربون ويحمرُّون فوق احمرارهم، ثم أخذوا يضمُّون أطراف ‏إمبراطوريتهم ويتربَّعون بها فوق رقعة مصر”85‏
‏ وللروائي طريقته في رسْم الشخصيات، حيث يرمي بالشخصية في الأحداث، ‏ويُورد عنها بعض الأوصاف والطبائع، ثم ما يلبث ويتركها، بعد أن يشير ‏لانعطافة محورية في حياتها، دون أن يستكملها، ثم يعود – بعد فصول من ‏الحكي – للشخصية ذاتها مرة أخرى، ليكمل رسْم تفاصيل عالمها الخاص بها، ‏مثلما فعَل مع شخصية جد السارد “محمد”، الذي أنجبه فاضل بعد تسْع بنات، ‏وكان له طبع ناري، ورغبة دائمة في كشْف المجهول وفَضِّه. أو شخصية زبيدة ‏أو حسن، أو صدقي وكامل وفاضل.‏


يقول أحمد الراوي المشارِك في الأحداث عن جدِّه الكبير فاضل: “خرَج فاضل ولم ‏يعُد؛ هكذا تقول الرواية المنسوبة لابنه الوحيد، جدِّي محمد. لم تَضِعْ سيرته إلى ‏الأبد؛ بل عُرف منها شذرات متفرقة، جميعها يؤكد عدَم إقامته مجدَّدًا في بيت ‏الخرُنفش، يقول البعض إنه انجذب؛ استلبته طاقة غيبية لبقية سنوات عمره، فيما ‏يقول البعض الآخَر إنه اكتشف – ذات فَجْر – نفْسه النبيلةَ، التي انغمست طويلا ‏في دنيا الليل، وحالما لمحت نهارًا؛ رمَحَت خلفه، رمْح شادن صغير وراء أمه ‏الغزالة” 213 ‏
وفي مساحة الواقعية السحرية، يتبدى الكنز المدفون، والرحلة التي يمارسها ‏الجميع للعثور عليه في البيت، وهنا أشير إلى اشتغال الكاتب المحدود نِسبيا على ‏بنية هذه التيمة، وتخليق الأحداث والمواقف وأساليب التشويق، التي تؤطِّر تيمة ‏محورية في العمل، وتنمي وجودها بطرق فنية مختلفة، فلقد سعَى رجال العائلة ‏جميعًا للحصول عليه، حتى أن بعضهم سمَّى أولاده الذكور السبعة باسم محمد؛ ‏لتتحقق النبؤة لأيٍّ منهم، كما رفضوا بيع البيت، حتى المهاجِر منهم لأمريكا. ‏أحسب أن هذا الكنز كان من الممكن أن يخلِّق من حوله مواقفَ أكثر إثارة وفتح ‏مجال سحري مشوق، كما كان من الممكن أن يهَب النَّص تأويلاتٍ متعددةً لو أن ‏السردية تعاملت معه رمزيًّا بشكل فني مركَّب. بالرغم من أن الكاتب قد أشار لهذا ‏البعد الرمزي مرَّات في ثنايا العمل؛ فإنه لمْ يُنَمِّ تلك المنطقةَ بطريقة تهَب نَصَّه ‏أبعادًا متعددة، كأن يقول شريك أحمد المهاجِر له لإقناعه بالسفر: “قد تجد الكنز ‏هنا في انتظارك، يحرسه كنغر أجرَب” 53.‏
أو يتجسد هذا البُعد الرمزي في النهاية، حين اكتشفت الدولة البترول تحت أرض ‏البيت والمزرعة، في البلدة البعيدة، التي أقامت فيها نعمات، ووهَبَت رُبع أرضها ‏لأخيها (مختار)، ثم طوَّرها معها ابن أخيها فاضل؛ (محمد)، وتوسَّع فيها. كما ‏أنه في أحد أحلام والدة الراوي تعلِّق الجدة على الحلم وتفسره قائلة: “ستُنجبين ‏الولد، وتسمِّينه أحمد” مازحتها عمتي: “طيب ما نسمِّيه محمد ليكتشف الكنز”؛ ‏فقالت جدتي روحية بيقينها الثابت: “بل إنه هو الكنز” 14 ‏
ويعتمد الروائي على تقنية الأحلام وتأويلها في بنْية النَّص الأساسية “حلم الكنز”، ‏هذا بالإضافة إلى مجموعة من الأحلام الأخرى الحقيقية، أو أحلام اليقظة، التي ‏تهَب السرد بعض السريالية التعبيرية التي تُبرِز بواطن الشخصيات، وتضيف ‏بعض مواطن السحر في العمل. ‏
وتأتي نماذج بعض الشخوص الثانوية، التي تتقاطع حيواتها مع حياة أفراد شجرة ‏عائلة (آل الشيخ)؛ لترسم مصر الكوزموبوليتانية، بكل تعدُّدها الإنساني والديني ‏والعِرقي، يتزوج الشيخ من أُم فاضل؛ تركية الأصل، ويُحب نشأت ليليت الأرمنية، ‏وتصادِق زبيدة جارسيا وإفرايم اليهوديين، ومن أصول إيطالية، كما يُسهم ‏الفرنسيان؛ ناظر مدرسة الليسية وأخوه الطبيب في كشْف حالة حَسَن المرَضية، ‏وهكذا..‏
ومن خلال هذا التعدد في طبيعة تكوين المجتمع، وتعدُّد طبيعة شخوصه ‏واختلافاتها، يكثِّف الروائي لنَصِّه مقوماتِ وطبيعةَ روايات الأجيال؛ حيث تتعدد ‏بها القصص، وتمتد المراحل الزمنية وتتوالَى، فيمُر السرد على الأحداث الكبرى ‏الفارقة في المجتمع، مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، وأحداث كبرى أخرى ‏متعدِّدة. وصولًا إلى أحداث يناير.‏
كما تتعدَّد الأماكن؛ حيث العاصمة وطبيعة حياة المدن الكبيرة بمناطقها التراثية ‏وما تهَبه من سِحر تاريخي، في مقارنة مع حياة الريف وطبيعته الخاصة، حيث ‏المواجهة بين المدينة والقرية، لا من حيث الطبيعة والمعمار فقط؛ بل من حيث ‏الإمكانات الثقافية والحضارية المتاحة لكلٍّ منهما، حيث تتيح رواية الأجيال بعضَ ‏الرصد والتوثيق، الذي يتطلَّب فقراتٍ وصفيةً تراعي تحولات المكان مع الزمن. ‏
وتتبدَّى اللغة في نَص “ورثة آل الشيخ” رصينة، قوية البناء، محكمة صياغة ‏الجُمل، كما أنها تتفاوت بين اللغة الناصعة القادرة على التعبير عن كل ‏المفردات، التي تصوغ مشاهد حيوية وغريبة، وذات طابع خاص بفضاء الرواية ‏التاريخي، ثم المعاصر.‏
كما يوظِّف الروائي المجازات والتشبيهات في مستويات متعددة، تتسق وطبيعة ‏الشخصيات، ونوع ما يجسِّدونه من أدوار، ما يفضِّلونه وينجذبون إليه أو يكرهونه، ‏مثل قوله وهو يصِف حال أبيه، حين يحكي عن عائلته، تلك المساحة التي يجد ‏ذاته فيها: “أخذ الكلام يسيل منه كماء الوضوء” 25، أو قوله: “تفعمني الغبطة، ‏تجذبني من طرف كُمي، فيما تمسك الرهبة بالكُم الآخَر. من لي ليقاسمني سعادة ‏اللحظة واضطرابها المحموم!” 82. فيبرع الكاتب في تجسيد المعاني بطريقة ‏محبَّبة وقريبة من القارئ، وتميل إلى تجسيد المشاعر والمعاني بتوظيف الحواس، ‏لتُصبح أكثر وقْعًا.‏
لكن تأتي بعض المفردات أحيانًا غير معتادة الاستعمال في بعض صِيَغها، كأن ‏يقول: “إنها الليلة التي شعرت فيها بإيشاكي على الإمساك بالقرد وانتزاع الكنز، ‏أكثر من أيِّ وقت لاحق” 20، حيث تبدو “إيشاكي” استخدامًا غيرَ مألوف على ‏الأسماع.‏
في هذا المقام للسرد الواقعي الذي يقدِّمه نَص “ورثة آل الشيخ” للروائي أحمد ‏القرملاوي، لنا أن نتساءل في ظِل اعتراف الكاتب للضابط، الذي يقرأ المخطوطة ‏داخل النص، ما هو قدْر المتخيَّل في هذا النَّص، وفي أيِّ مساحة منه يتدخل ‏خيال الروائي، وما هي مناطق الواقع الشاغرة، تلك التي يشعر بفراغها الروائي؛ ‏فيسعى لملئها من خياله؟ تلك الأسئلة يستطيع الروائي فقط أن يقدم إجابات ‏حولها.‏

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net
موقع الرسالة العربية