بقلم دكتورة / أماني فؤاد
هل نحن بحاجة لأن نعرف أنفسنا، مَن نكون، ما هي طموحاتنا وأحلامنا، وأسباب إخفاق بعض سَعْيِنا وخططِنا، كيف ننجح، ومقومات الوصول للأهداف، ولماذا نفشل؟
كيف نقدِّم أنفسنا للآخَرين من خلال الدراما التي ننتجها، وكيف يستقبلونها؟ تفرِض هذه الأسئلةُ ذاتَها على كل مَعنِيٍّ بمكانة مصر، بحاضرها ومستقبلها.
هل ندرك الصراعات الحقيقية في منطقتنا، هل نملك رؤية للمستقبل، ونحيط برؤى القوى المشتبِكة والطامعة من حولنا، الإقليمية والدولية؟
هل نُلِمُّ بما يحدُث على أرض مصر من إنجازات على أرض الواقع، في المشاريع مختلِفة المَحَاوِر، ونملك حرية التعبير عن صدوعاتنا الاقتصادية والسياسية والثقافية الاجتماعية، وتجسيدها في الدراما؟
هل ندرك بالفعل طبيعة شبكة العلاقات بين أفراد المجتمع وطَبَقاته، والثقافة التي تحكُم علاقات الأُسر: الزوجة والزوج والأولاد، ونستطيع أن نواجه بأنواع الخَلَل الواقعة بالفِعل ونجسِّدها بالدراما، وأيضًا تقصي قضايا اختلاف الأديان، ومشاكل الأجناس المتداخِلة في المجتمع المصري؟
أين الدراما المصرية المقدَّمة في رمضان لعام 2025 من تلك الأسئلة؟
لا أميلُ لجَلْد الذات، ولا غَضِّ النظر عن جهود بعض الفنانين المميَّزة بالفعل، حيث قُدِّمت بعض المسلسلات الدرامية الجيدة، مثل: قلبي ومفتاحه، كامل العدد، لام شمسية، النُّص، عايشة الدور، أولاد الشمس، منتهي الصلاحية، وتقابل حبيب، وغيرهم.
تَظَل أسئلةُ المقال أعلاه قائمةً، أين الدراما التي تعبِّر عن هُويَّتِنا، وعن التغيُّرات التي تطرأ على وَاقِعنا، وعمَّا يتم إنجازه، عن صراعات الوطن الداخلية والخارجية، عمَّا شُيِّد من بنْية أو تَمَّ تطويره، أين الدراما التي تدعَم منظومة القِيَم الأخلاقية، وتعلو بها، ولا تكرِّس للتدنِّي وانحدار الذوق العام، وتنغمس به، وتبالِغ فيه، وتجسِّد أسوأ نماذج الشخصيات والأبطال.
ماذا لو قُدِّم عملٌ درامي لعائلة مصرية كبيرة من الطبقة الوسطى، وتضمَّنَ عددًا من الأُسر، يخوض شبابها غمارَ العمل والحياة، ويتوزَّعون في الأقاليم والمدن المصرية؛ وفْقَ تخصصاتهم ووظائفهم؛ ليعملوا بالمشروعات الكبرى التي تُقام، أو للانضمام للقوات التي تحمي الوطن من جهاته الأربع، وتدعَم أمْنه الداخليَّ والخارجي، وخاصة في ظِلِّ نزوح كثير من الجنسيات الأخرى وإقامتهم في مصر، فتطرح قضايا الهُويَّة، ومناحي التنمية ومعوقاتها كافة، من وجهات نظر مختلفة؛ فتسهِم في زيادة الوعي والانتماء للوطن، أحسب أن مثل هذا العمل يمكن أن يقدِّم ملحمة متكاملة من تأكيد الهُويَّة وبنْياتها المتراكِمة المستمرة، ويوجِّه النظر على ما يتم من مشروعات، وما تخوضه مصر من معارِك وصراعات خارجية وداخلية، تكشف الصعوبات. مثل هذه الفكرة ستفتح أجزاءً متعددة لمسلسل يجسِّد العائلة المصرية الكبيرة، على أن ينتقل التصوير إلى تلك المشاريع والمناطق الجديدة؛ فيُبرِز التنوُّع المصري الجغرافي والثقافي، والعلاقات الطبقية في رؤيتها الأوسع، في توزُّع بين المركز والأطراف، كما تلقي الضوء على العلاقات الإقليمية والدولية، والتهديدات الأمنية للوطن. وأحسب أن مثل تلك الأعمال تحتاج تدخُّلَ الدولة في إنتاج هذه الصناعة، التي طالما امتلكت مصرُ فنيِّيها ومبدعيها.
لماذا جسَّدت بعض الأعمال المقدَّمة في رمضان هذا العام أسوأ ما في المجتمع المصري، وبالغت فيه، فكانت الفجاجة والابتذال والسطحية سِمَةً في العديد من المسلسلات الأكثر مشاهدة وتكاليف إنتاجية؟ هل نفتقر للابتكار والتجديد، أم للحرية، أم للإنتاج الضخم الذي يجسد ملاحم شعب؟
هناك منطقة بينية شفيفة بين الفن الذي يشتبك مع الواقع بالفعل، ويجسده وينقُل صراعاتِ شخوصه، وفصولًا من حيواتهم، وبين الفن الدرامي الذي لا يجسِّد الواقع فحسب، بل يُضاف إليه ميزة الارتقاء بوعي الجموع وأذواقهم، حين يتسرب إلى نفوسهم دون خطابية أو توجيه، يسري بداخلهم كموجة خفية، تستقر في وعيهم وتؤثر فيهم، في الفكر والسلوك.
وهنا لنا أن نتساءل: كيف يحقق صانعو الدراما هذه المعادلة الصعبة: الاشتباك بالواقع وتجسيده، وترقية الإنسان أيضًا والإضافة إليه؟
أحسب أن تحقُّقَ هذا الهدف لن يتأتَّى إلا بالوعي العميق بطبيعة الفن وإمكاناته التي تتجاوز الواقع، وبإمكانها أن تعلو عليه وتفلْتِرَه، وتؤمِن بدوره في حياة الأفراد، والوعي أيضا بهُويَّة المجتمع وقضاياه واحتياجاته الحقيقية، يتحقق بإعلاء القِيَم الأخلاقية والفكر العميق، وتقدير الجَمال بكل صُوَرِه وإشاعته، بمعنى عدم الانغماس في المبتذَل من الواقع ولا تضخيمه، فحتى إذا كان الواقع في المناطق الشعبية أو العشوائيات بهذا التردي؛ ليس علينا إشاعته هكذا، ولا تصديره مُمثِّلًا لصورة مصر في الخارج. يمكن أن يستخدِم الفنُّ فلسفتَه وأساليبه لتجميل الواقع نسبيًّا، فَلِلدراما تأثير شديد على الجموع. تحكي جدتي وأمي رحمهما الله إنهما كانتا تنتظران آخِرَ صيحات ملابس شادية وفاتن وماجدة لِتُحَاكِيا أناقتهن، ليس المظهر فقط؛ بل رُقي الأساليب في الصوت، والحوار واللفظ، في الحركة، في الوعي والثقافة.
إن تحاشي الألفاظ الفجَّة والأساليب المُسِفَّة والشتائم والقُبح ليس تعقيمًا للفن، فالاعتماد على الأساليب السَّلِسة الطبيعية، البسيطة، وإبراز الهُويَّة المصرية بمقوِّماتها الأصيلة، التي تتَّسِم بـالنخوة والشهامة والرُّقي، تلك التي لا تميل للعنف ولا الإسفاف؛ كلُّ هذا يدعَم بنْيةَ الشخصية المصرية، ولعلنا تابعنا هذا النموذج في حارة أسامة أنور عكاشة في ليالي الحلمية. النموذج الشعبي الوطني القوي الذي يجسد الأغلبية، ويخوض صراعاتِه بشرَف ونزاهة.
فمن صلاحيات الفن ترميم صدوعات الواقع القبيحة، المنفِّرة، إن وُجِدت، وأعني بها هنا كل عناصر الصورة في الدراما، اللفظ، وطريقة حركة ملامح الوجْه والجسد، الملابس، الديكورات، ونظافة الأماكن، نبرات الصوت؛ أيْ الدراما باعتبارها فاصلًا معبِّرًا عن الواقع كما نتمنَّى أن نراه نسبيًّا، إن شيوع الجمال والمحبة والسلام والتسامح والرُّقي يصنعه طقس عام ونموذج يشاهده الإنسان، يتمدد ويعلو حين ننشره بكل أشكاله، كما أن تسيُّد القبح والابتذال على المشهد يُحقِّقُ الـعدوَى، وينتشر كوَبَاء.
وقد يتساءل البعض هل سنقدِّم الواقعَ معقَّمًا، وكيف سنجسد الصراع الذي هو طبيعة الحياة في تلك الطبقات، وهذه المناطق الشعبية، هل علينا ألا نبرز سوى المغسول في الواقع؟ يعلم الجميع إنه لا دراما دون صراع، وأيضًا دون متعة، لكن على صُنَّاعِها مراعاة اقتحامها لكل البيوت، فحتى الواقع وتجسيد الصراعات يمكن أن يقدَّم دون المبالَغة فيه، ودون ابتذال ولا إسفاف، لا أقصد تزييف الواقع، لكن مراعاة أن الفن، وتحديدًا الدراما تشكِّل ذائقةَ الجماهير.
ــ الممكن الذي بإمكانه أن يتحقق
ويتطلَّب لغلَبة هذا الفن الذي يسعى بالارتقاء بالذائقة العامة للجماهير ووعيها وفهْمِها، أن ينعَم بمناخ حُرٍّ، وأفكار جديدة ومبتكَرة، وأن يتضمَّن جانبًا من الخيال، والتطلُّع لما نريده أن يسود، فنُوجِده كمُمكِن في الدراما، الممكن الذي بإمكانه أن يتحقَّق، كما يتطلب ذلك أن يكون وعيُ الفنان مثقَّفًا، يعرف كيف يرفَع من معطيات الواقع، ويرمم بعض ثغراته القبيحة.
الأصالة في الفن أن نعبِّر عن أنفسنا، دون مبالَغة في إبراز الخيانات، وتفشِّي تدنِّي الأساليب، وسيادة مفهوم قوة الأفراد وتغوُّلهم، وكأننا في غابة، لا سيادة فيها لقانون يحكم الجميع.
الأصالة أن نعبِّر عن ذواتنا كأفراد ومجتمع له هُويَّة خاصة إيجابية، وإذا كانت غير واضحة للبعض؛ فعلَى الدراما أن تبرزها، وتجسدها راقيةً، ضمْن منظومة القِيَم والطبائع وطقوس حياة نماذج الأبطال، دون أن نسعى لتقليد نماذج من الدراما التركية والكورية أو غيرهما.
ــ كيف تسهِم الدراما في بنْية الشخصية المصرية
في تحليلٍ مقارَن بين الدراما المصرية المقدَّمة هذا العام في رمضان، والدراما التي قدِّمت في الثمانينيات من القرن العشرين، أيام الأعمال المميَّزة لأسامة أنور عكاشة، ومجموعة أخرى من كُتاب السيناريو؛ نجِد الآن شيوع النزوع إلى الذاتية، ومن ثم الأنانية والفُرقة وتأجيج الصراعات التي تتخذ العنف والابتذال منهجًا، هذا في مقابل ما كان يقدِّمه الكاتب الراحل في أعماله التي تُعلي قِيَم الانتماء، وتُبرِز هُويَّات المجتمع المصري بتنويعاتها، التي تجسد الطبقاتِ والجغرافيا المصريةَ، في تفاعُل الإنسان مع الواقع وعلاقته بالمكان والزمان.
إن تسيُّد الذاتية والعنف، والتركيز على الطموحات الفردية؛ جعَل الأُسرة تتفكك، كما الأواصر بين طبقات المجتمع، وازدادت الفجوات الشاسعة بينها. ومن ثم ظهَر على السطح غثاء القِيَم: الأنانية، والانتهازية وغَلَبة الغرائز والأطماع والعنف.
أتعجَّب الآن من إبراز شرائح تتَّجِر في المخدرات والعُملة، أو عائلة من الراقصات، أو الأُسر التي تحرِّكها الكراهية بين إخوة الأُسرة الواحدة، هل هذا هو السائد في المجتمع المصري؟
هذا النزوع إلى الذاتية والعنف وتقلُّب المنظومة الأخلاقية والاجتماعية يؤثِّر دون شَكٍّ على الأجيال الحالية، ويرسِّخ لنموذج مشوَّه من الشخصيات المصرية التي تجسِّد مفاهيم القدوة والاحتذاء، هذه الدراما التي توزَّع على كل الفضائيات في البلدان العربية، والتي تترك أسوأ الانطباعات عن المجتمع المصري في الخارج، حتى بِتُّ أسمَع البعض يقول لم أعد أتابع المسلسل المصري.
انتقاء تلك الشرائح وقضاياها الانتهازية العنيفة، وأساليبها المبتذَلة السطحية، وتصويرها بفجاجة؛ يُبعِد الجموع عن قضايا تحوُّلات المجتمع المصري الأهم، هذا التجاهُل يدعو للتساؤل، فالمجتمع المصري الطبيعي يصارع الواقعَ؛ لتأمين وجوده وتنميته.
للعقل والوجدان والوعي احتياجاتهم من الدراما التي ينبغي أن تُقدَّم، لا الاقتصار على مغازلة العين، ودغدغة الحواس، واللعب على التشويق المثير فقط، وهو ما ننتظره بعودة إسهام الدولة في تنمية هذه الصناعة التي تدعم قوة مصر الناعمة.