بقلم دكتورة / أماني فؤاد
في عام 2022 وقعت 269 ألف حالة طلاق في المجتمع المصري، وبالرغم من انخفاض نسبة الطلاق بــ 12 % في عام 2023 لتصل إلى 238 ألف حالة؛ إلا إن نِسَب الطلاق لم تزَل مرتفعة، وتنذر بالخطر على حالة الأُسرة، حيث الحاضنة الأولى والأهم للفرد.
وهنا يُطل سؤال مهم: مَن الذي يسعى للطلاق بدرجة أكبر، الرجُل أم المرأة؟
تقول محامية شهيرة في الأحوال الشخصية، من الواقع اليومي لمحاكم الأُسرة، في حوار إعلامي أُجرِي معها قريبًا: إن المرأة هي التي تسعى للحصول على الطلاق أكثر من الرجُل؛ حيث تسعى للانعتاق من القيود، والتخلص مما يؤلمها، ويعطل قدراتها. كما تضيف إن الرجال لا يريدون الطلاق، فمهما أخطأ الرجُل؛ يريد من الزوجة أن تسامحه وتغفر له زلاته، وأن تترك الحياة تسير دون أن تقف على أخطائه أو تحاسبه، فعلى المرأة أن تتحمل نزوات الرجال وخياناتهم وأخطائهم، وتصمت. فالرجُل كما هو الشائع، “طفل كبير في البيت”، فهل يُحاسَب الأطفال!؟
وحين سُئلت المحامية عن أكثر وأهم الأسباب التي على أساسها تطلُب المرأة الطلاق، قالت: الخيانات. ثم ذكرت السبب الثاني، وقالت: وحين صدَّقت النساء مقولة المرأة القوية المستقلة، التي ترددها الآن الكثيرات، فقد أصبحت قوة الزوجة واستقلالها سببًا رئيسًا في حالات كثيرة من الانفصال والطلاق، هذا وأوضحت إن افتقاد الرجُل للتقدير من الزوجة والاحترام، وافتقاد المرأة للحنان والأمان والمحبة من الرجُل، والعلاقة التي تحكمها النِّدية، كل هذا يُعَد من أهم الأسباب التي يقع الطلاق جرَّاءها.
وأضافت في تفسيرها لارتفاع حالات الطلاق، إنه كلَّما بعدت الأُسر الجديدة عن تقاليد وعادات المجتمع الراسخة، التي كانت تحفظ تواصُل واستقرار كيانات الأُسر والعائلات المصرية؛ كلَّما زادت حالات الطلاق، وتعدت النِّسب الطبيعية، وصارت علاماتٍ تنذِر بخطر تفكُّك وِحدة الأُسرة في المجتمع.
وحين تأملت الحوار؛ تعجبت من عدم الالتفات لبعض نقاط أساسية، فحين النظر إليها، والتفكير في أبعادها المختلفة؛ لا يمكن أن نرتاح للكثير مما يتردد على الألسنة من أحكام مطْلَقة.
أولًا: علينا أن نضع في الاعتبار اختلاف طبقات المجتمع، فلكل طبقة أسباب لوقوع الطلاق تختلف عن الأخرى نسبيًّا، يجتمعون في بعض الأسباب، ويختلفون في أخرى، فالأسباب الاقتصادية والجهل بالحقوق والواجبات، والعادات والتقاليد أيضًا، من أكبر الأسباب التي ترفع حالات الطلاق في الطبقات الوسطى الدنيا، والطبقة الفقيرة.
ثانيًا: الكثير من المنصفين يدرك إن العاداتِ والتقاليدَ المصرية والعربية تستمد مقولاتها من جُب سحيق، حاكته ثقافة ذكورية عتيدة، انتصرت فيها العادات والتقاليد، التي تكونت كطبقات جيولوجية على مَر الزمن، وتراكمت فوق بعضها لمصلحة الرجُل، وعلى الأرجح تعاملت مع المرأة على أنها مِلْكية خاصة بالرجُل، ثقافة أبوية تمنح الرجُلَ قدْرًا واسعًا من الحريات، لا يمكن أن تتيحه للمرأة، ثقافة تمرير الخيانة بحجة أن خيانته نزوة يمكن أن تغتَفر، كما أن خيانته لن تغيِّر في الأنساب، بينما خيانة المرأة تؤدي إلى ذلك.
كما أنه الرجُل، الحر، المتعلم، متعدد الخبرات، الذي يعمل وينتِج، ويقوم بالإنفاق على المرأة، يجوز له أن يتحكَّم ويعتدي؛ فهو صاحب المال، الذي عمَل وبذَل جهدًا للحصول عليه، أيضًا من حق الرجُل أن يتزوج امرأة واثنتين وثلاث وأربع، وأن يجمع بينهم، من حقه أن يؤدِّب المرأة ويضربها أو يؤذي كرامتها لترتدع، فهو الراعي الذي عليه أن يضبط إيقاع الحياة. هكذا تحكي العادات والتقاليد وتبيح، تطلِق حقوق الرجُل لتراعي كل نزواته وخروجاته وتبررها، في حين أن أدوار المرأة – في الأُسرة – لا يُنظر لها بتقدير يُذكر، كما أنها لم تُعط الفرص في التاريخ لتتراكم معارفها وتجاربها، ومن ثم ينضج كيانها لتفهم وتعبِّر عن إرادتها، وتدرك حقوقها، وتطالِب بها.
وهنا قد يتساءل البعض الآن عن العادات والتقاليد وموقع النساء فيها، أليست المرأة كيانًا ضمْن النوع الإنساني، لها مشاعر وكرامة ورغبة في الحياة المستقلة الحرة مثلها مثل الرجُل، أليس من حقها أن تأخذ فرصها كاملة لتتعلم وتكتسب خبرات، لتنتِج وتتحمل مسئولية نفسها، وأُسرتها، وتشارك بالحياة، أَم من الأفضل أن تظَل مقموعة لصالح الأُسرة، تظَل بحاجة للرجُل، تنتظر عطْفه أو عقابه، عطاءه أو منْعه، هل كتب عليها أن تتأذَّى نفسيًّا من الحريات المطلَقة للرجُل، وألا تطالب بالانفصال عمَّا يؤذيها؟
ما لا يدركه الكثيرون، إن فِعل التغيير قد حدَث، وإن الزمن ليس بمقدروه أن يرجع إلى الوراء، فمنذ تعلمت المرأة، وبدأت تخوض تجارب الحياة، وعرفت نفسها وحقوقها، منذ عملت، واكتسبت الخبرات والتجارب، وشعرت بقدراتها ووثقت بها، وأصبح بمقدورها أن تكون مستقلة اقتصاديًّا، ونفسيًّا؛ بدأ التغيير، وتوالت التحولات المزلزلة لهذا الوعي الذكوري السابق، ولكيان الأُسرة القديم الذي تعارفنا عليه، وكلَّما تغيرت طبيعة العلاقات به؛ طوَّحت المرأة بكل ما يؤذيها، حتى لو أصابها الإرهاق أو الغضب.
نحن بحاجة لصياغات جديدة تنظِّم علاقات الأُسرة بين الرجُل والمرأة، ويتم ترسيخها بوسائل مختلفة؛ لتشكِّل وعيًا حديثًا، لا تكون السيادة فيه لطرف على حساب طرف آخَر؛ بل تنطلق العلاقات فيه من الفهم الجديد للشراكة بالحياة.
في تقديري وبخصوص مسألة العادات والتقاليد هذه، علينا أن نُخضعها لعملية من النقاش المجتمعي أولًا، كما يمكننا أن ندعو للتمسك بالعدل، الذي يراعِي حقوق الطرفين، والاحتفاظ بالعناصر التي تخلُق المودة والتواصل الجميل والاحترام، وكشْف وإزاحة الظالم منها، وإحلال كل ما يراعي الحقوق العادلة للمرأة، وكونها كيانًا كاملَ الأهلية، وله كرامة، كما أنه هو الآخَر بحاجة للتقدير، علينا أن نغيِّر منظومة القِيَم والمقولات، التي استقرت قرونًا في الوعي الجمعي، وأحسب أنه لن يتأتَّى هذا إلَّا في إطار التعليم المنظَّم، حيث المراحل الإجبارية، التي يتعيَّن أن يحصل عليها الجميع، وذلك حين توضَع المناهج التي تتضمن قِيَمًا تُعلي من قدرات المرأة وشموليتها، لا حصرها في الإنجاب وتسيير شئون المنزل والطهي وتربية الأولاد؛ تُعلي من رأيها وضرورة احترامه، وتشير لفوائد الشراكة بين الرجُل والمرأة في العمل والبيت، حين نعزِّز المواد والقِيَم التي تعطي المرأة حقوقًا لكيان كامل القدرات، لا يختلف عن الرجُل في حقوقه إلا في بعض النواحي البيولوجية، التي تخصها بالأمومة، وتجعلها أكثر قدرة على الاحتواء والحب.
العادات والتقاليد هي التي كانت تدعو المرأة للصمت في مواجهة خيانة الرجُل، وتمرير المشكلات، والقبول بزواج الرجُل من أربعة هي إحداهن، للمرأة كرامة وتتأذَّى حين تُخان، أو تصير مجرَّد عدد ضمن أخريات؛ وقتها تشعر بعدم الثقة في الرجُل الذي ارتبطت به، عدم الثقة في نفسها، وفي الكثيرين من حولها، وقد تتلبسها رغبة الانتقام أحيانًا، وهو ما يبرِّر أيضًا بعض خيانات المرأة من وجهة نظرهن، وهي ليست بالمحدودة.
للحرية والعدل أيضًا أثمان، حيث يجب أن يتغير وعي المرأة ذاتها، بمعنى أن المرأة الحرة القوية المستقلة ماديًّا، عليها أن تعاود النظر لنفسها باعتبارها شريكًا، الشريك هنا لابد أن يسهِم لا أن يتلقَّى فقط، الحرية والقوة لا تتجزأ، بمعنى أن تأخذ المرأة منها ما تريد من مكتسبات، ثم تترك التزاماتها؛ لأن العادات والتقاليد تقول إن المسئول عن الإنفاق عن الأُسرة هو الرجُل، فالشريك عليه واجبات من البذل والعطاء لهذا الكيان المشترَك، البذل المادي والمعنوي، مثلها مثل الرجُل، كما أن عليها تحمُّل المسئولية والتشارك في اتخاذ القرار الصائب، فالحرية والاستقلال واجبات قبل أن تكون حقوقًا، بمعنى أن منظومة القِيَم التي تحكم علاقة الزوج والزوجة، يعاد النظر فيها في مفاهيم المرأة أيضًا، فكما أخذت المرأة ما استحقت؛ عليها أن تنظر لنفسها بأنها فارقت وضْع المستقبِل لما يهَب الرجُل وينفق، وأنها مسئوليته، بل بمنظور أن الحياة – بكل تكاليفها وعطاءاتها – شراكة، وعلى المرأة وقتها أن تكون مسئولة ومبادِرة ومتحملة لمتطلبات الحياة مع الرجُل.
في تقديري، طرْح القضايا في وسائط الإعلام بهذه السطحية، والاعتماد على الكلام المرسَل وتكراره على ألسنة الحقوقيين والإعلاميين، واتخاذه كموضوع للسخرية والمزاح؛ لا يساعد على حل قضية ارتفاع نِسب الطلاق، ولا البحث عن سواء العلاقات الزوجية بين المرأة والرجُل، بل علينا تقليب التربة وكشْف جذور الأشياء والظواهر، وبيان العوار فيها، هذا الكشف هو الذي يغيِّر من الوعي العام، مع ملاحظة أن كل عمليات تغيير الوعي بطيئة، لكنها تحدُث عبْر المثابَرة والاشتغال على منظومة من القِيَم بوسائل توصيل متعددة، الإعلام والخطاب الديني والدراما، كل هذه القنوات وغيرها، بجوار التعليم الذي هو الأساس، الذي يمكن ضبْط مدخلاته وضمان وصولها لجميع النشأ، نظام تعليمي يقدم نظرة تنويرية وحداثية لحقوق المرأة وكونها شريك في كل أوجه الحياة، كما أن الرجُل شريك في كل شئون الأُسرة.
نحن بحاجة ماسة لمفاهيم أُسرية ترسِّخ حالة شراكة كاملة للمرأة مع الرجُل، شراكة تجعلها تقبَل الحياة وهي غير منتقصة الكرامة ولا الإنسانية، وهي كيان كامل القدرات.
كما أن النظر للزواج بكونه شراكة تأخذ المرأة فيه حقوقها يتطلب ألا تنظر المرأة إلى نفسها باعتبارها شريكًا اقتصاديًّا سلبيًّا، بل الشراكة لا تتجزأ.
ولعله يتعيَّن الالتفات لمعنًى آخَر مهم، فالمرأة القوية المستقلة اقتصاديًّا لا يُطلب منها أن تكون رجُلا، وهنا أعني أن الأنوثة والحنان لا تتعارض مع القوة والاستقلال، فعقل المرأة - وثقافتها ووعيها وقُدرتها على التصرف الجميل – يُكسبها درجات أعلى من المحبة والاحترام في عين الرجُل، وهو ما قد يبدو أنه عكس الشائع الذي يقولون فيه إن من أهم الأسباب التي تسهل فكرة الطلاق عند النساء، استقلالها الاقتصادي وقوة شخصيتها وقدراتها الفائقة على التصرف.
وأعاود مناقشة المزيد من أسباب الطلاق في المقال القادم.