بقلم / بشار جرار
هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة – الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر الرسالة العربية*
لم تكن تلك الأيام العشرة التي هزت العالم إثر الثورة البلشفية، عنوان الكتاب الشهير للكاتب الاشتراكي الأمريكي جون ريد بعد عامين على اندلاع ثورة ١٩١٧ بقيادة فلاديمير لينين. لم تكن ثورة لكنها بالتأكيد فيما لو لم تحسم تفاوضيًا لأسفرت عن هزات ارتدادية لا تقف عند روسيا ولا أوكرانيا.
بضع ساعات لا أكثر، هي تلك التي عاشها العالم في غموض لم تفلح الصحافة الحرة ولا الموجهة في تفسيره، بل زادت من الطين بلة، في بلبلة إحدى النظريات والتي تزعم بأن المستهدف هو نفسه بطل “المسرحية”!
بين سيناريوهات شطح أصحابها في الرغائبية لدرجة وصف تمرد يفغيني بريغوجين مالك شركة فاغنر الروسية شبه العسكرية، المتهمة بالارتزاق والإرهاب أمريكيًا وأطلسيًا، بالانقلاب على القيصر نفسه، على الرئيس فلاديمير بوتين رجل المخابرات القوي العابر من الاتحاد السوفييتي إلى روسيا الاتحادية، والمتهم من قبل واشنطن والناتو بالسعي إلى إعادة بناء ما فرّط به صاحب سياستي غلاسنوست (الشفافية) وبريسترويكا (إعادة البناء) الراحل ميخائيل غورباتشوف -آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي المنحل- بعد سقوط جدار برلين وإعادة توحيد شطري ألمانيا.
لن أدخل في سجال حمّى التوقعات التي يسهل الدفاع عن اثنين منها على الأقل، إلا أن بقاء بريغوجين على قيد الحياة قبل انتهاء حرب أوكرانيا وقد صار الآن أقرب إلى كييف، يعزز إحدى النظريات القائلة بأن كل شيء أما كان تخطيط بوتين بمشاركة طباخه بريغوجين وصديق رئيس بيلاروسيا الحميم ألكساندر لوكاشينكو الذي رعا الوساطة بناء على طلب أو موافقة حليفه بوتين، أو أن الأمر كله -على كل ما رشح من معلومات وصور وفيديوهات إلى الإعلام وخاصة من روستوف- لم يخرج أبدا عن السيطرة، سيطرة بوتين شخصيًا.
بوتين لا يغفر الخيانة كما أقرّ بذلك في مقابلة تلفزيونية خاصة، لكنه بدا براجماتيا في تعامله مع ظاهرة يلام عليها في عديد من دول العالم، وهي محاولة توظيف أو إرضاء أو غض الطرف عن “الأوليغارك” تلك الطغمة العسكرية الفاسدة المتحالفة مع رجال أعمال فاسدين لا يشبعون مالا ولا سلطة ولا نفوذا.
هنا تكمن خطورة ما قد لا يصل إلى التصفية الجسدية لكنه قد يتطلب الإقصاء بتوبيخ أو الطرد إلى الأعلى، وهذا بحسب ما يطالب به بريغوجين علنا، هما رئيس هيئة الأركان فاليري غيراسيموف، ووزير الدفاع سيرجي شويغو منذ عام ٢٠١٢. وهذا الأخير من رجالات الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين المخلصين الذي كان صديقا حميما لنظيره الأمريكي الأسبق بيل كلينتون. قد يذكر القراء الكرام نوبة الضحك التي سيطرت على الرئيسين إثر تعليق عفوي ليلتسين الذي ارتبطت رئاسته أيضا بتلك المشاهد لدبابات تقصف مقر البرلمان الروسي -ويعرف بالبيت الأبيض في موسكو- عام ١٩٩٣ بأمر مباشر منه، ذلك القصف أسفر عن مقتل نحو مئة وخمسين شخصا.
بين رأس فاغنر ورئاسة الجيش والأركان، يبقى “القيصر” محاطا بمن وصفه يوما -جراء حماسته وحدته- بوزير دفاع وليس خارجية، وهو سيرغي لافروف. أما الذي بدا أكثر حدة وصرامة فكان الرئيس السابق – الانتقالي – إن جاز التعبير، ديميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي حاليا والذي يبدو أكثر تشددا مع خصوم بوتين الداخليين والخارجيين، كما يقال: كاثوليكيا أكثر من البابا أو ملكي أكثر من الملك!
إن صحت ما نشرته الصحافة الأمريكية ومنها واشنطن بوست وCNN بأن أجهزة المخابرات الأمريكية كانت على دراية بنوايا تمرد رئيس فاغنر قبل أسبوعين وأن سفيرة أمريكا في موسكو لين تريسي كانت على اتصال دائم مع الخارجية الروسية خلال الساعات الست والثلاثين التي عصفت بالكرملين، فإن السؤال المطروح هو ماذا قررت إدارة بايدن العمل إزاء تلك التقارير الاستخبارية؟
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قالها صراحة بأن “الشعب الروسي وحده هو المعني بالقرار” مشددا على أن ثمة “تصدعات” تواجه قيادة بوتين للبلاد في إشارة غير مباشرة إلى الجيش وليس فقط دائرته الضيقة في الكرملين.
أما ما يعني الجمهور العالمي وبخاصة الشرق الأوسط، فلم يخرج عن دائرة القلق من قيام أي تنظيم شبه عسكري حتى وإن كان القائمون عليه تابعين بشكل مباشر أو غير مباشر للجيش النظامي في أي بلد كان. تجربتا فاغنر وقوات التدخل السريع في السودان رغم وجود فوارق بينها إلا أنهما يؤشران إلى خطورة هذه الكيانات، قطاعًا عامًا كانت أم خاصًا. فما بالك بحال دول في الإقليم تعج بالمليشيات وتضج بمنظري حركات الإنقاذ والإصلاح والتصحيح؟!