بقلم الأستاذة الدكتورة / أماني فؤاد
ولد الكاتب الكبير يحيى حقي، في السابع عشر من يناير 1905، وتوفي في التاسع من ديسمبر 1992، وهو أحد أهم أعمدة الأدب العربي الحديث، ورائد فن القصة القصيرة والرواية في مصر، ومن معطفه خرج الكثيرون من مبدعي السرديات، لتحقق مزيجا فريدا من الخصائص الفنية والفكرية في إبداعات يحيى حقي، فضلا عن روحه المفعمة بالمحبة.
تمتع حسه الكتابي بقدرة فائقة على التقاط التفاصيل الصغيرة ورصدها بما يستنطق خصوصية المكان المصري بتنويعاته، بثقافته، وموروثات قاطنيه واختلاف عاداتهم وتميزها بين الريف والمدينة، بين القرية في الصعيد أو الحارة في القاهرة، حيث كان بارعًا في رسم الحياة اليومية في الأحياء الشعبية المصرية، ونقل هموم الناس البسيطة، وهو ما منح نصوصه عمقًا وصدقًا كبيرين.
وتعمق كاتبنا الكبير بثقافته المتسعة في تحليل دوافع الشخصيات وصراعاتها الداخلية بحس إنساني يلتقط دوافعهم وكهوفهم النفسية. كما برع في إبراز الصراع بين الأصالة والمعاصرة في رائعته “قنديل أم هاشم”. وهو ما قدم نقدًا للمجتمع وظواهره السلبية، سردا لا يخلو من سخرية مريرة وتسؤلات حائرة، يقول في “قنديل أم هاشم”:كانت الروائح، والأصوات، والوجوه المألوفة، وأزيز الذباب حول الباعة، وحتى منظر القنديل الزجاجي المتأرجح في المقام، كل ذلك كان ينغرس في روحه كالإبر، يذكره بأنه ابن هذا المكان، وأن علمه الجديد يشبه ثوباً غريباً لا يلائم جسده. كانت عيناه تريان في القرية أمراضاً وجهلاً يجب أن يحاربهما بعلمه، ولكن قلبه كان يشعر بأن في هذه الأصالة، التي يريد أن يقتلعها، راحة وسكينة لم يجد لهما مثيلاً في أوروبا. أهو خيانة لتراثه إن عالج الناس بالحقن بدلاً من التبرك بزيت القنديل؟ أم هو خيانة لعلمه إن أذعن لتلك العاطفة التي تشدّه نحو زيت كفيف لا يملك شفاءً إلا في الإيمان به؟”


يحكي عنه بعض الأدباء الذين عاصروه قائلين: إنه كان روحا إنسانية ذكية، تحاور الأفكار والوجود، تدرك جوهر القضايا وتستطيع أن تقبض عليها بوضوح.
تميز أسلوبه السردي بالمزاوجة بين فصاحة اللغة العربية وإدخال مفردات وجمل من العامية المصرية في الحوار، أو في سياق السرد، مما منح نصوصه حيوية وأصالة وقربًا من الواقع.
مع الميل إلى الإيجاز المكثف، خاصة في قصصه القصيرة، التي كان يصوب كل كلمة بها لدلالة فكرية أو لقيمة فنية، فلقد ترك لنا نصوصا تهيئ مساحات رحبة للتأمل في مفاهيم الحياة، والموت، والزمن، والقيم الإنسانية الأساسية. كما تمتع أسلوبه بـ حس شعري عالٍ، مما يجعل الوصف والسرد أقرب إلى القصيدة النثرية في كثير من المواضع. ففي حس تأملي يصف كبر السن يقول:”الشيخوخة هي الكنز الحقيقي للإنسان. كل تجعيدة في وجه شيخ هي سطر في كتاب، وكل لمعة حزن في عينيه هي صفحة من تاريخ. لو أننا ندرك قيمة ما نحمل من الماضي، وما يمنحنا إياه التقدم في العمر من بصيرة وحكمة وصدق، ما خفنا منه ولا هربنا من الاعتراف به. إنها المرحلة التي يبدأ فيها القلب بالاستراحة من أوهام الشباب ليتمتع بجمال الأشياء الحقيقية الباقية، ويبدأ فيها العقل بتجميع الحصاد لتقديمه للآخرين” وهو ما يبرز قدرته على تحويل التجربة الإنسانية العادية إلى قيمة فلسفية عميقة بأسلوب سلس ومؤثر.
كان يحيى حقي رائدا في تجريب أشكال جديدة من الحكي، واللعب مع البناء التقليدي للقصة، فاستخدم تقنية السرد بالرسائل والمذكرات. كما وظف الرمز في بعض أعماله لخدمة إبراز الأفكار العميقة بمنهج السهل الممتنع، كما في رمزية “القنديل” و”الزيت” في “قنديل أم هاشم”.
حمل يحيى حقي هموم مجتمعه فتجاوزت كتاباته مجرد السرد إلى مهمة تثقيفية وتوعوية عميقة. فلقد حرص على الهوية المصرية، والموائمة بين الأصالة والمعاصرة، حيث المصالحة بين التراث الغني للمجتمع المصري والتوجه نحو الحداثة الغربية، بيقين من أن التطور يجب أن ينبع من الجذور لا أن يكون تقليدًا أعمى. كما انتقد بشدة المثقفين الذين ينفصلون عن بيئتهم الثقافية، داعيًا إلى فهم وتقدير روح الشعب المصري الأصيلة قبل محاولة إصلاحه.
كما لمس يحيى حقي هموم البسطاء والمهمشين، وعرف طموحاتهم بسبب نشأته في بيئة شعبية وعمله في الصعيد، فكان صوتًا إنسانيا واعيا للمحرومين، عرض لشخصيات الفقراء والحرفيين وأهل الأحياء القديمة، مصورًا كرامتهم ومشاكلهم بعمق وإنسانية، ومسلطًا الضوء على الظلم الاجتماعي الذي يقع عليهم. كما أولى المرأة وقضاياها اهتماماً كبيراً، مبرزا لقوتها وصراعاتها ضمن حدود المجتمع التقليدي، ووعيه الأبوي.
يصف الكاتب بطلة نص “البوسطجي” يقول:”كانت (مريم) زوجة عبده تسكن في الظل، كأنها لم تُخلق إلا لتخدم وتصمت. في نظره ونظر أهل القرية، لم تكن سوى امتداد لبيته وأثاثه، وجودها مرهون بإرضائه وبإنجاب الأطفال. كان عبده يتحدث عنها أحياناً كأنه يتحدث عن قطعة من ممتلكاته التي لا يحق لها أن تبدي رأياً أو أن تطلب شيئاً يتجاوز حاجتها البيولوجية للعيش.”






















































