كتب د / حسن اللبان
يمتد جذور مدينة غزة في عمق التاريخ، فهي واحدة من أقدم المدن في العالم، وقد شهدت حضارات متعاقبة تركت بصماتها على معالمها الثقافية والأثرية، لكنها أصبحت الآن مهددة بـ”محوها” بعملية إسرائيلية وحشية جديدة تهدف إلى طمس معالم “عاصمة القطاع”.
وعندما بدأ الاحتلال الإسرائيلي هجومه البري في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تركز على مدينة غزة وأحيائها الغربية، لكنه الآن ولأول مرة منذ بدء الحرب يعمل على زج خمس فرق عسكرية كاملة من أجل النيل من المدينة التاريخية.
فبعد محو رفح، وتلاها شمال قطاع غزة، ثم مناطق شاسعة من خان يونس، بدأ الاحتلال الإسرائيلي عملية برية جديدة تهدف إلى القضاء على معالم المدينة التي تعرضت للتدمير منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي تصريحات سابقة له، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مدينة غزة بأنها تضم “آخر معاقل حماس”، مشيراً إلى أن الحرب دخلت مرحلة حاسمة.
ما أهمية مدينة غزة؟
تُعتبر مدينة غزة من أقدم مدن العالم، وتكتسب موقعاً جغرافياً مميزاً، وبحسب مركز المعلومات الفلسطيني، تشكل المدينة “الخط الأمامي للدفاع عن فلسطين والشام” جنوباً.
أُطلق عليها أسماء متعددة، فقد سمّاها الكنعانيون “هزاتي”، والفراعنة “غزاتو أو غذة”، بينما أطلق عليها الآشوريون واليونانيون “عزاتي” و”فازا”، ثم الصليبيون “غادرز”، أما العرب فسموها “غزة”.
وقد اختلف المؤرخون في سبب تسميتها بـغزة، فهناك من يقول إنها مشتقة من المَنَعة والقوة، وهناك من يقول إن معناها: “الثروة”، وآخرون يرون أنها تعني: “المُميزة” أو “المُختصة” بصفات هامة تميزها عن غيرها من المدن.
وقد كان لموقعها المتقدم دور عظيم لمعظم الإمبراطوريات في العالم القديم والحديث، وتميزت بدورها في مقاومة الاحتلال البريطاني والإسرائيلي.
فيما قال عنها المؤرخ الفلسطيني عارف العارف في كتابه عن المدينة، إنها “ليست بنت قرن من القرون أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا”.


وفي الأثر، قيل إن القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت، قال عن غزة إنها “المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا”.
وهي المدينة التي قال عنها رئيس وزراء الاحتلال الأسبق إسحاق رابين: “أتمنى أن أستيقظ وأجد البحر قد ابتلع غزة”، فيما اعتبرها أرئيل شارون أنها تشكل عبئاً على إسرائيل، أما نتنياهو فقد وصفها بأنها “الرمز الرئيسي لحكم حماس”.
وتتميز مدينة غزة بأنها “عاصمة القطاع”، فهي تشكل الثقل الحكومي والأمني والاقتصادي والتجاري والجامعي في القطاع.
كما يبرز اسم مدينة غزة بتميزها بوجود معالم تراثية تاريخية، تشمل الإسلامية والزوايا والأسواق والحمامات والقصور، مثل: المسجد العمري، ومسجد السيد هاشم، ومسجد المغربي، وسوق القيسارية، وقصر الباشا، والزاوية الأحمدية، وكنيسة الروم الأرثوذكس.
ما هي أحياء مدينة غزة ومخيماتها؟
- حي الشجاعية: يُعد أكبر أحيائها، وقد بُني خلال عهد الأيوبيين، وفيه تل المنطار التاريخي.
- حي التفاح: يعود تاريخه إلى أوائل حكم المماليك في القرن الثالث عشر.
- حي الدرج: أحد الأحياء التاريخية في مدينة غزة، وفيه مسجد السيد هاشم المبني في العصر العثماني، والمسجد العمري الكبير، وتنتشر فيه الأدراج التي أخذ اسمه منها.
- حي الزيتون: أكبر أحياء المدينة من حيث المساحة، وثاني أكبرها من حيث عدد السكان، وفيه معالم تاريخية أبرزها: مسجد الشمعة، ومسجد العجمي، وجامع كاتب الولاية، وكنيسة الروم الأرثوذكس.
- حي الرمال: أحد أقدم أحياء المدينة وأكثرها ازدهاراً، ويتميز لكونه مركزاً تجارياً كبيراً، وتعود بداية بنائه إلى أواخر العهد العثماني في بداية القرن العشرين.
- حي الشيخ رضوان: يُعد من أهم أحياء مدينة غزة، وبُني عام 1973، ويمر به شارع الجلاء وشارع النصر، كما توجد به “مقبرة الشيخ رضوان” إحدى مقابر المدينة الكبيرة.
- حي النصر: بناه المصريون عام 1957 إبان فترة الإدارة المصرية لقطاع غزة، وقد كان مخصصاً لإيواء عائلات الجنود والمتطوعين المحليين الذين قاتلوا ضد إسرائيل خلال النكبة عام 1948، وسُمي على اسم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
- حي الصبرة: من الأحياء القديمة في غزة، ويقع بالقرب من شارع الثلاثيني الذي يُعد من أهم شوارع المدينة الحيوية.
- حي تل الهوى: من الأحياء الجديدة، حيث تم إعماره عند قدوم السلطة الفلسطينية، وأُقيمت فيه أغلب المباني الحكومية، كما يُعتبر من الأحياء التي يسكن فيها رجال الأعمال والسياسيون.
- حي الشيخ عجلين: يقع جنوب مدينة غزة بالقرب من الطريق الساحلي، ويشتهر بشاطئه الهادئ وبزراعة العنب والتين، ومن أهم آثاره “أرضية من الفسيفساء” اكتُشفت عام 1966.
- مخيم الشاطئ: ثالث أكبر المخيمات الفلسطينية وأكثرها اكتظاظاً، وتأسس عام 1949 لإيواء آلاف اللاجئين الذين نزحوا إليه من بعض المدن الفلسطينية، وسُمي بهذا الاسم لوقوعه على شاطئ بحر غزة.
لماذا يريد الاحتلال السيطرة على مدينة غزة؟
لم يُعلن الاحتلال بشكل رسمي أن الهدف من عملياته في مدينة غزة هو “تدمير المدينة”، ويتحجج بأهداف عسكرية لتنفيذ هجومه غير المسبوق.
لكن العملية البرية في مدينة غزة جاءت بعد خطوة مماثلة في باقي المناطق في قطاع غزة، لا سيما رفح التي مُسحت تماماً، والشمال الذي أصبح عبارة عن جبال من الركام.
ويتحجج الاحتلال بهدفين ليُبرر استمرار عملياته العدوانية في غزة، وهما:
- تحرير الأسرى الإسرائيليين.
- القضاء على حركة حماس.
لكن صحيفة “يديعوت أحرونوت” قالت إن الهدف من العملية هو الوصول إلى انتخابات خلال عام وشهر، بينما لا تزال الحرب مستمرة، ثم التمسك بها لتغيير النظام الانتخابي أو تأجيله، مشيرة إلى أنه قد تكون هناك المزيد من العمليات الأخرى.
وتذكر مجلة “Just Security” أن الخطة الإسرائيلية الجديدة تهدف فقط إلى استمرار وتوسيع المسار الحالي للحرب على غزة، فعندما يتحدث نتنياهو عن “سيطرة”، فإنه يعني في الواقع توسيع نطاق أسلوب العمليات التدميرية لتشمل مناطق إضافية، كما تم تطبيقه في رفح وبيت حانون.
ورأت أنه يجب قراءة الخطة على خلفية النية المعلنة “تشجيع الهجرة” من غزة، بما يتماشى مع خطة ترامب غير المدروسة.
وخلال الأيام الأولى من الهجوم البري على القطاع في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قام الجيش الإسرائيلي بعزل مدينة غزة وشمالها عن باقي مناطق القطاع، ثم أمضى شهراً في التوغل في أحياء وضواحي المدينة، لكنه لم يسيطر على المدينة نفسها.


وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أفادت تقارير الجيش الإسرائيلي بتمكنه من تفكيك 10 كتائب من أصل 24 كتيبة تابعة لحركة حماس، وادعى آنذاك أنه تمكن من تفكيك المقاومة في شمال غزة.
وبحلول أكتوبر/تشرين الأول 2024، أي بعد عام من تصريحاته حول تفكيك كتائب حماس، اضطر الجيش الإسرائيلي إلى دخول جباليا للمرة الثالثة.
وبحسب تقرير في صحيفة “جيروزاليم بوست“، فإن الجيش الإسرائيلي خلال عملية “عربات جدعون” التي أطلقها في مايو/أيار 2025، تعهد بالسيطرة على غزة، وصرح سياسيون بأن مناطق بأكملها ستُدمر في هذه العملية، ومع ذلك فإن حركة حماس عادت للسيطرة على المدينة.
كما نفذت عمليات في منطقة الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، وقد سيطر عليها الجيش الإسرائيلي أربع مرات على الأقل منذ بدء الحرب، كما نفذ عمليات محدودة في الصبرة، ونحو أربع عمليات في حي الشجاعية منذ بدء الحرب.
ويعتقد المستوى السياسي الإسرائيلي أنه إذا هُزمت حركة حماس في مدينة غزة، فإن ذلك يعني القضاء على منفذي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومع ذلك فإن إسرائيل لم تتمكن من القضاء على الحركة في عملياتها الأخرى مثل رفح وخان يونس، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
ورغم أن الجيش الإسرائيلي نجح في القضاء على معظم قادة السرايا والكتائب والألوية لحركة حماس، إلا أنها تواصل تجديد مقاتليها وتواصل القتال.
وعلى سبيل المثال، أشارت الصحيفة إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن من هزيمة حماس إلا بعد عشرين شهراً من الحرب، وذلك بعد هدم جميع المنازل هناك مع يوليو/تموز 2025.
ويزعم الإسرائيليون أن مدينة غزة ذات أهمية بالغة لحركة حماس، ويعتقدون أن مدينة غزة تشكل تحدياً أمام الجيش الإسرائيلي، فهي تحتوي على أكبر لواء مقاتل لحركة حماس.
ويُقدّر الجيش الإسرائيلي أن القوة القتالية الفعلية للواء غزة تتراوح ما بين 2000 و2500 مقاتل مدرب، ويُقدَّر أن ضعف هذا العدد من الشباب واللاجئين المقاتلين يخدمون أيضاً في القوة القتالية لحماس، بحسب صحيفة “معاريف“، فيما تذكر القناة 12 العبرية أن 10 آلاف مقاتل من حماس بقيادة الحداد ينتظرون جنود الجيش في أزقة المدينة المزدحمة.
وتقول صحيفة “معاريف” إن أحد أهداف العملية هو قائد لواء غزة عز الدين الحداد، ودفعه للضغط على قادة الحركة في الخارج للتوصل إلى اتفاق لوقف الحرب.
وتُقدّر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن الحداد قد جهز منظومة دفاعية ومجموعة من مقاتلي “حرب العصابات” الذين سيحاولون تحدي قوات الجيش داخل المدينة.
وتقول قناة “ABC” إن التحرك نحو غزة يُعتبر الخطوة الأولى في عملية إسرائيلية أكبر تهدف في نهاية المطاف إلى التوسع إلى مخيمات الوسط، وكذلك إلى المواصي غرب خان يونس.
وتُعتبر تلك المناطق الوحيدة في غزة التي لم تُدمَّر بالكامل تقريباً في العمليات الإسرائيلية السابقة.
ما المخاوف التي تترتب على تدمير مدينة غزة؟
أثارت العملية الإسرائيلية الجديدة في غزة مخاوف في الأوساط الفلسطينية والعربية، من أن الهدف النهائي هو تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، بعد تدمير كافة مقومات الحياة بما فيها منازلهم.
وتشير التوقعات إلى أن الهدف الذي يلي مدينة غزة هو المحافظة الوسطى، والتي تضم مخيمات النصيرات ودير البلح، وكذلك منطقة المواصي، وسط مخاوف مصرية من إرغام المواطنين على التدافع نحو سيناء المصرية.
وقال وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إن إسرائيل تستهدف “تحويل حياة 2 مليون إنسان إلى كابوس يومي، وجعل الحياة مستحيلة بما يخدم مخططات الهجرة وتصفية القضية الفلسطينية”.


فيما قال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، إن هناك استعدادات تشمل مختلف أجهزة الدولة والوزارات لمواجهة أي سيناريوهات محتملة، مؤكداً أن مصر لن تسمح تحت أي ظرف بتهجير الفلسطينيين.
وفي تصريحات تكشف المخططات الإسرائيلية في غزة، كشف وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير عن رغبته في إقامة حي للشرطة على شاطئ قطاع غزة بعد احتلاله.
فيما قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، إنه بدأ التفاوض مع الولايات المتحدة بشأن ما وصفه بـ”تقاسم أراضي قطاع غزة”.
وكانت صحيفة “واشنطن بوست” قد كشفت، أواخر أغسطس/آب الماضي، عن خطة يُجرى تداولها في أوساط إدارة ترامب لإعادة إعمار غزة، تقوم على وضع القطاع تحت “وصاية أمريكية” لمدة لا تقل عن 10 سنوات، مع تحويله إلى منتجع سياحي ومركز للتكنولوجيا المتقدمة