بقلم الكاتبة / سهام فودة
لا يأتي العام الجديد على أطراف الوقت فقط، بل يتسلل بهدوء إلى القلوب، كضيف يعرف جيدًا أين يضع حقائبه. لحظة عبوره لا تُقاس بدقات ساعة ولا بأصوات ألعاب نارية، وإنما برجفة خفية تسكن الروح، كأن الزمن يمنح الإنسان فرصة أن يلتقط أنفاسه، وينظر إلى نفسه دون مرايا زائفة.
في تلك الليلة التي يخلع فيها العام ثوبه الأخير، لا نحتفل بالزمن بقدر ما نحتفل بالقدرة على الاستمرار. نقف على عتبة عام جديد ونحن نحمل في جيوبنا تعبًا قديمًا، وندوبًا تعلمنا منها أكثر مما آلمتنا، وأحلامًا نجت رغم كل محاولات الانكسار. العام الجديد لا يسألنا عمّا خسرناه، بل يهمس لنا بما يمكن أن نربحه إذا صدقنا النية وأحسنا السير.
رأس السنة ليس مناسبة صاخبة كما يبدو من بعيد، بل حوار داخلي طويل بين الإنسان ونفسه. حديث صامت عن طرق أخطأناها، وخيارات كنا نظنها النجاة فاكتشفنا أنها كانت اختبارًا، وعن أشخاص مرّوا في حياتنا ليتركوا أثرًا ثم مضوا. في هذه اللحظة تحديدًا، يصبح الهدوء أكثر صدقًا من الضجيج، وتغدو البدايات الحقيقية تلك التي تُولد داخل القلب لا تحت أضواء الشوارع.
العالم كله، رغم اختلاف لغاته وثقافاته، يتشابه في هذه الليلة. الجميع يتمنى، والجميع ينتظر، والجميع يفتح نافذة صغيرة للأمل. تختلف الطقوس، لكن الشعور واحد، إحساس خفي بأن الغد قد يكون أرحم، وأن القادم ربما يحمل تعويضًا مؤجلًا عن صبر طويل. كأن البشرية كلها تتفق سرًا على هدنة مع اليأس، ولو لليلة واحدة.
وفي زحام الأمنيات، يتعلّم الإنسان درسًا مهمًا كل عام، وهو أن الفرح لا يحتاج إلى مظاهر ضخمة كي يولد. أحيانًا يكفي قلب مطمئن، أو دعاء صادق، أو جلسة عائلية دافئة تعيد ترتيب الفوضى الداخلية. هكذا بدأت فكرة الاحتفال البسيط تفرض نفسها، لا هروبًا من الواقع، بل وعيًا بأن الجمال الحقيقي لا يُشترى، بل يُصنع.
العام الجديد يحمل في طياته وعدًا غير مكتوب. وعد بأن البدايات ممكنة مهما تأخرنا، وبأن السقوط لا يمنع النهوض، وبأن الإنسان قادر في كل مرة على إعادة تعريف نفسه. هو ليس عصًا سحرية تغير الواقع، لكنه نافذة واسعة يدخل منها الضوء لمن أراد أن يفتحها.
ومع أول صباح في العام الجديد، لا تكون المعجزة قد حدثت بعد، لكن شيئًا ما يتغير في الداخل. نظرة أكثر هدوءًا، قلب أقل قسوة على نفسه، وإيمان خجول بأن القادم يستحق المحاولة. هنا فقط نفهم أن رأس السنة ليست احتفالًا بالزمن، بل احتفال بالإنسان، بقدرته الدائمة على أن يبدأ من جديد، حتى وإن تعثر ألف مرة.
هكذا يطرق العام الجديد أبواب القلب، لا ليعدنا بالكمال، بل ليمنحنا الشجاعة. شجاعة الحلم مرة أخرى، والمضي خطوة أخرى، والتصالح مع الحياة كما هي، على أمل أن نصنعها كما نحب.






















































