عاجل

# أم كلثوم والحلم والمصري
أردوغان: اعتراف إسرائيل بصومالي لاند يزعزع استقرار المنطقة
ترامب: سنضرب إيران فورا في حال مواصلتها برنامجها النووي
المغرب يهزم زامبيا في”ليلة تألق” أيوب الكعبي.. ويتأهل إلى دور الـ16 بكأس إفريقيا
في سابقة هي الأولى من نوعها.. نتنياهو يُعلن عن منح ترامب جائزة إسرائيل للسلام
الصين تطلق “مناورات عسكرية واسعة النطاق” تحذيرًا من استقلال تايوان
حماس تؤكد مقتل قائدها محمد السنوار بعد أشهر من إعلان إسرائيل مقتله
نجاح ولادة قيصرية لحالة مشيمة ملتصقة بمستشفى دمياط العام
منتخب جنوب إفريقيا يخطف وصافة مجموعة الفراعنة بأمم إفريقيا 2025
إخلاء سبيل إمام مسجد شهير بالقاهرة بتهمة انتحال صفة مأذون
محاولات المساس بأمن واستقرار الصومال مرفوضة
1.15 مليار دولار حجم التبادل التجاري بين مصر والسودان
سقوط ميكروباص بترعة المريوطية و3 أشخاص لقوا مصرعهم
زيادة ضخ مياه الشرب بمرسى مطروح
إزالة 2071 تعديًا على أملاك الدولة والأراضي الزراعية فى البحيرة

# أم كلثوم والحلم والمصري

بقلم / صلاح سالم

لا يمكن فهم سر غضب المصريين العارم من فيلم الست الذي قدم صورة اختزالية، وربما مشوهة، لكوكب الشرق أم كلثوم، ما لم ندرك أنه احتجاج شديد اللهجة على تشويه “الحلم المصري”، حلمهم أنفسهم بالتحرر من المستعمر والنهوض من وهاد التخلف، والتقدم إلى الصفوف الأولى بين الأمم المتمدنة. الحلم الذي ولد مع بدايات الدولة الحديثة، دولة الباشا محمد على، ورواح كثيرا بين صعود وهبوط في ظل أولاده وأحفاده، وصولا إلى لحظة يوليو، حينما هبت ثورة الجيش على البلاط والاحتلال باسم عموم المصريين، فبدا الحلم وشيك التحقق لكنه عاد ليترنح بعد أقل من عقدين، ولا يزال يراوح في مكانه حتى الآن بين يأس ورجاء.
في سياق الحلم المصري احتلت أم كلثوم إبراهيم البلتاجي موضعا ملهما، كونها ابنة للشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، أتت من أعماق دلتا النيل، حالمة باقتحام العاصمة، مركز الفن والثقافة قبل السياسة وعوالمها. جربت حظها مع القاهرة لأول مرة وهي صبية غضة، قبيل ثورة 1919م فتعثرت خطاها، اضطرت للأكل مع الخدم قبل العودة محبطة إلى طماي الزهايرة. كررت المحاولة وهي فتاة ناضجة عام 1922م، بعد هدنة مؤقتة استجمعت فيها شجاعتها، فيما كانت مصر تستجمع قواها وتقوم بثورتها الشعبية 1919م، وقد نالت بفضلها استقلالا اسميا، وشرعت في تجربة ديمقراطية على قاعدة دستور ليبرالي يعترف لعموم المصريين/ الفلاحين بالحرية والمواطنة. وكان الزعيم الوفدي سعد زغلول يشرع في رئاسة الحكومة بأغلبية أصواتهم. وهنا صارت اللحظة مهيأة للاعتراف بفتاة مصرية ظلت فلاحة، لكنها لم تعد خرسيسة.
ازدادت الأجواء تفتحا في الحقبة شبه الليبرالية، والتي يمكن تسميتها بعصر التنوير المصري، فأخذ الرسامون والنحاتون يبدعون ما يستلهم عظمة تاريخنا، ويعكس نهضتنا الحديثة، وينصبون إبداعاتهم أمام جامعتنا الوليدة، وفي قلب مياديننا الكبرى. وفي موازاتهم كان مفكرو مصر وكتابها الكبار يخرجون من عباءة الانبهار بالغرب ورؤيته المادية للحياة التي كان تدعوهم إلى الانفلات من أصالتهم إذا أرادوا الحداثة، باحثين عن طرق جديدة لبلوغ التمدن دون انخلاع من ذواتهم الحضارية، فألف طه حسين على هامش السيرة بحثا عن أصالة الروح بعد انبهار عارض بالتراث اليوناني. وكتب محمد حسين هيكل حياة محمد وفي منزل الوحي، إلى جانب العقاد صاحب العبقريات، الراسخ في قلب الموقف التوفيقي، وعلى عبد الرازق داعية العلمانية المعتدلة، وشقيق د. مصطفى عبد الرازق، شيخ الأزهر ورائد الفلسفة الإسلامية، الذي أحسن استقبال أم كلثوم في العاصمة كما في قصره، وأفرط في تشجيعها، مدركا القدرة الكامنة في صوتها على حمل رسالة مصر الفنية، والإسهام في مشروع نهضتها الشاملة، وهو الإدراك نفسه الذي تبلور لدى طلعت باشا حرب، أعظم البنائين في مصر الحديثة، فرأى فيها رمزا لنهضة فنية تواكب نهضتنا الاقتصادية، ألهمته تأسيس أستوديو مصر الذي احتضن جل مشروعاتها السينمائية، قبل أن يفتح أبوابه لغيرها. هكذا كان صعود الست بمثابة تتويج فني لمشروع حضاري، تبنته الطبقة الوسطى الصاعدة، يرنو إلى تحرر الوطن وتقدمه. ولهذا كره المصريون مشروع زواجها من شريف باشا خال الملك فاروق، ليس فقط لأن الملك تحفظ عليه استعلاء بالدم الملكي على فلاحة مصرية، فكان ذلك عدوانا على كرامة ابنتهم، بل أيضا لأنهم رأوا في ذلك الزواج استحواذا من الأسرة المالكة على درة التاج في مشروعهم للتحرر والنهوض الوطني.

مع ثورة يوليو حدث اللقاء الفذ بين رمز الوطنية المصرية جمال عبد الناصر، ورمز الفن المصري أم كلثوم. كان كلاهما مصريا حتى النخاع، عربيا حتى أخمص القدم. رأي الزعيم أن الوطن المصري لن يكون محوريا في العالم دون قيادة العرب، ورأت الست أن الفن المصري لن يكون عالميا قبل أن يكون عربيا. جمع بينهما الحلم الكبير، رغم أية تفاصيل صغيرة من قبيل المنع والتحريض والوشاية تتناسب والصغار الموجودين في كل مكان وزمان. أعلن جمال أن الست هرم رابع لا يمكن هدمه، فغنت الست له ولمصر ما عبر الحدود وبلغ تأثيره كل مكان ذهب إليه الحلم المصري، الذي بلغ أقصى مداه قبل أن يهدأ مع الانفصال ويترنح مع النكسة. في لحظة الهزيمة بقي صوتها شامخا، حتى أن الذين ناهضوا الحلم المصري أحسنوا استقبالها في بلاد الغرب كما في بلاد العرب. غنت على مسرح باريس الأكبر كأفضل ما يكون الغناء، سحرت الجميع بحضورها قبل صوتها، ووجهت كل الرسائل الممكنة. عادت لتمنح المجهود الحربي عصير رحلتها وخلاصة جهدها. واكب صمودها صلابة شعبها وجيشها في حرب استنزاف زادت وتيرتها وتعاظمت وطأتها على العدو. رحل ناصر وجاء السادات والحلم يحاول الانبعاث من مرقده، جري تجنيد المؤهلات العليا لحساب المعركة الكبرى التي جرى التخطيط لها على النحو الأمثل، فكان النصر العظيم. عبرت مصر هزيمتها كما كتبت الأهرام بقلم الحكيم، وثأرت الطبقة الوسطى لحلمها المشروع. استنزف النصر والثأر معا طاقة عموم المصريين، وعلى رأسهم الست التي أوفت بكل العهود وقد أضناها الطريق، فرحلت بعد عناء مرفوعة الهامة. أما الطبقة الوسطى العريضة، حاضنة الحلم المصري فكانت على موعد مع محن والآم لا تنتهي. عادة مصر كاملة السيادة على أرضها لكن حلم النهضة والتقدم ظل مؤجلا، انزاح إلى ذاكرة الوطن والأجيال التي عاصرت الست وحلمت معها ومن خلال صوتها بمصر العظمى، لذا كان طبيعيا أن يرفض المصريون عملا يسيء إليها، يشوهها أو يختزلها، لأنه في الحقيقة يختزلهم ويعتدي على حلمهم.. طوبى للكبير محفوظ عبد الرحمن، وللرائعتين صابرين وإنعام محمد على، الذين فهموا حلمنا فقدموا لنا الست الحقيقية، كما رسخت في أعماقنا.

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net