بقلم الأستاذة الدكتورة / أماني فؤاد
ينهض هذا المقال حول فلسفة بقاء قانون مَعيب في حقِّ المرأة والمجتمع المصري؛ قانون “بيت الطاعة”.
أفهم أن فلسفة القوانين تقوم على توفير آلية لحل النزاعات بشكل عادل، وأبدًا لم يكن القانون أداة لتهديد طرف، أو إرغامه على عيش حياة لا يرتضيها. في قانون “بيت الطاعة” إن لم تقبَل المرأة العيش في بيت الزوجية وتطيع؛ تقع عليها عقوبات قاسية، وتصبح ناشزًا، وذلك لإجبارها على القبول بأوضاع مُهينة، تكون مكرَهة عليها.
وأتساءل: هل يتعيَّن على المرأة أن تظَل تدفع أثمان إقصائها اجتماعيًّا وثقافيًّا، ضمن فترات زمنية طويلة أبوية السيطرة، وذكورية المنزَع والحقوق، هذا الانتقاص الحقوقي ليس لعجز ذاتي خاص في قُدراتها على الحفاظ على كيان كامل الحقوق والإرادة؛ بل بفرْض السيادة والرغبة في السيطرة من الرجل.
كنت قد سعدت منذ فترة؛ حين قرأتُ أن قانون بيت الطاعة قد أُلغِي؛ لكنني اكتشفت أن طريقة تنفيذه فقط هي التي تم تعديلها، وفيه يمكن للمرأة أن تعترض خلال 30 يومًا من صدور الحُكم.
بموجَب هذا القانون، على المرأةَ أن تعيش وكفَى، في مساحة الحد الأدنى من الحياة، كفى أن يتم السماح لها بالعَيش، كأن قُوى المجتمع المتحكِّمة تستنكر: هل يفكر هذا الكائن أن يكون له إرادة!؟ هل يفكر أن له كرامةً وحقوقًا، وأن على المجتمع والقانون أن يحافظ عليهما؟ وفي حالة إذا أرادت المرأة واختارت ألا تعيش في وسَط كَارِهٍ، مُجبَرة على الحياة مع زوج لم يَعُد بينهما وفاق؛ فعليها أن تدفع ثمن اختيارها وإعلائها لكرامتها؛ فتتنازل عن كل حقوقها، إثمها الكبير أنها رفَضَت رجُلًا ما، فمنذ متى ولها حق الاختيار!؟
يتجسد جزء كبير من المشكلة في عدم الاستطاعة، بمعنى أن بعض النساء يستطِعن الاعتماد على أنفسهن في حالة الطلاق، والإنفاق على حياتهن، لأنه في قانون بيت الطاعة، إذا لم تستجِب المرأة للرجوع إلى بيت الزوجية، واختارت الطلاق؛ عليها أن تتنازل عن حقوقها كافة. المؤسِف، ونقطة الضعف المؤلِمة، أن الكثيراتِ منهن، في مجتمعاتنا، لا يستطعن الإنفاق على أنفسهن، ولا إيجاد مسْكن منفرِد؛ ولذا يرضَخْن لِمَا يسمَّى “بيت الطاعة”، ويعِشن منتهَكاتٍ وكارهاتٍ لهذه الحياة التي تُفرَض عليهن فرْضًا؛ بل يتعمد الطرف الآخَر في هذه الحالة أن يلقي بالزوجة في مسْكن لا يتضمن إلا الحدود الدنيا من التجهيز؛ ليكدِّرها وينتقص منها؛ لأنها تجرَّأت ورفَضت.
لماذا يفترض المجتمع، ومثله المشرِّع، أن المرأة لا تعرف ماذا تريد، ولا تقدِّر ما يناسبها، لماذا يفرضون عليها الوصاية الدائمة، تحت ادِّعاء أنها لا تعرف مصلحتها، كل الخطابات -التي يروِّجونها عن المرأة وانفعاليتها، وأن عواطفها هي التي تحركها– خطابات خبيثة موجهة من أجل السيطرة.
ويُعتبَر قانون بيت الطاعة أحدَ حلقات أوْجُه قهْر المرأة، والانتقاص من إنسانيتها. بل أكثر القوانين إثارةً للجَدَل والنقد في العصر الحديث؛ حيث يستند إلى فهْمٍ تقليدي لمفهوم “الطاعة الزوجية”، وفيه يحِق للزوج رفْع دعوى قضائية، يطالِب فيها زوجته بالعودة إلى مسْكن الزوجية إذا غادرته دون مبرِّر شرعي أو قانوني مقبول.
فبدلاً من تنظيم العلاقة الزوجية، القائمة على المودَّة والتفاهُم، يُستخدَم هذا القانون كأداة قانونية لإخضاع المرأة، ونفْي إرادتها. ويتجلَّى ذلك في عِدة أوْجُه:
- يفرض القانون على الزوجة الإقامةَ في مسْكن الزوجية بشكل مطلَق، ويجعل خروجَها منه دون إذن الزوج أو سبب شرعي مقبول دليلاً على ”نشوزها” (عصيانها). هذه البنود تحدُّ بشكل جذري من حرية المرأة في اتخاذ قراراتها الخاصة فيما يتعلَّق بمكان إقامتها.
- كما أن الهدف الأكبر من دعوى بيت الطاعة، ليس بالضرورة إعادة الزوجة جسديًّا؛ بل هو إسقاط حقِّها في النفقة إذا صدَر حُكْم قضائي يفيد بنشوزها. يُستخدَم هذا التهديدُ كسَيف مسلَّط، يدفَع المرأة للقبول بأوضاع زوجية مُسيئة، خوفًا من فقدان مصدر دخْلها وحقوقها المالية.
- في حال صدور حُكم بالطاعة، تضطر المرأة للعودة، حتى لو كان السبب الحقيقي لتركها المنزل هو الإساءة النفسية أو الإهمال، أو حتى العنف غير المثبَت قضائيًّا. وبذلك، يتحول القانون إلى غطاء شرعي لفرْض الإقامة الجبرية، وإخضاع المرأة لإرادة الزوج.
إن قانون بيت الطاعة يتعارَض بشكل صارخ مع وضْع المرأة وحقوقها، التي كفَلَتها المواثيقُ الدولية والدساتير الحديثة حتى 2025، وذلك للأسباب التالية:
- تفترض التشريعات الحديثة أن المرأة والرجُل شريكان متساويان في الحقوق والواجبات. يعيد قانون الطاعة المرأةَ إلى وضعية التابع أو القاصر، الذي تُفرض عليه الإقامة بقرار من طرف واحد، مما يتناقض مع وضْعها كمواطِنة كاملة الأهلية.
- يُقِر عِلم النفس الحديث بالعنف الخفي، الذي يشمل الإساءة النفسية والعاطفية والإهمال. فالعنف ليس المادي فقط؛ بل المعنوي الذي قد لا تملك المرأة أدلة قانونية كافية لإثباته، فهناك أوْجُه من “الضرر” تنضم للضرر الشرعي الظاهر، وتكون ظروف حياة المرأة غير محتمَلة، مضطرة للحياة في بيئة سامة.
- تعمل معظم النساء، ويُسهمن في دخْل الأُسرة، في ظِل الظروف الاقتصادية الراهنة. فيعيق فرْض الإقامة عملها واستقلالها المهني.
وفي حالة إسقاط النفقة، كعقوبة على “النشوز”؛ يصبح الوضعُ مُجحِفًا، خصوصًا إذا كانت المرأة هي المعيل الأساسي، أو شريكُ المسؤولية المالية.
كما أن الكثير من الدول قد ألغت، أو جمَّدت العمل بقانون “بيت الطاعة”، واستبدلت به قوانينَ أكثر توازنًا، تركِّز على واجب الإنفاق والتعويض المادي في حالة الطلاق، بدلاً من إجبار المرأة على العودة الجسدية.
إن التشريعاتِ التي لا تليق بالمرأة هي التي تعتمد على مفاهيم أبوية، عَفَا عليها الزمن، وتفترض تفاوتًا أصيلاً في الكرامة والحقوق بين الزوجين.
فلا يليق ربْط حقِّ المرأة في النفقة أو المأوى بـ “طاعتها” الزوجية، بدلاً من ربْطه بمسؤولية الزوج تجاه أُسرته، وواجبه القانوني في الإنفاق.
كما أن القوانين – التي تركِّز على “طاعة الزوجة” – تغفل غالبًا مصلحة الأطفال، الذين يتضرَّرون من النزاعات القَسْرية أو العيش في بيئة غير صحية.
أفهم أن تؤسَّس العلاقة الزوجية على أنها شراكة مبنية على الاحترام المتبادَل والمودَّة والرحمة، وليس على أساس الإخضاع والتبعية، كما أنها من المفترض أن تؤمِّن للطرفين حقَّ اللجوء إلى القضاء لطلب الطلاق، أو الخُلع، مع حِفظ كافة الحقوق. مع الأخذ في الاعتبار تقسيم المسؤوليات والعِبء المالي للأُسرة.
كما مِن شأن التشريعات أن توفِّر الحماية الكاملة للمرأة من جميع أشكال العنف والضرر، وتجعل خروجها من المنزل – بسبب أيِّ ضرَر – مبرَّرًا شرعيًّا وقانونيًّا، لا يُسقِط حقوقها؛ حيث أننا طيلة الحياة لم نَرَ الرجال الملائكة المنزَلين على الأرض!!
كما أن تعديلَه أو إلغاءه خطوةٌ ضرورية نحو تشريعات تعكس مكانة المرأة الحقيقية في المجتمع الحديث، ولذا أرجو إعادة مناقشة قوانين حقوق المرأة والأحوال الشخصية بتمثيل النساء من القاضيات، والنسويات، بنِسَب لا تقِلُّ عن نِصْف الأصوات التي تشرع، واختياري للنسويات يعود إلى حداثة وَعْيهن؛ حيث يظَل الكثير من النساء، حتى لحظتنا الراهنة، يفكِّرن ويشعُرن بطريقة شكَّلها المجتمع الذكوري، وسيطرته على الوعي الجمعي العام.