بقلم الكاتبة الصحفية / سهام فودة
في زحام الحياة، يمرّ بنا أشخاص كأنهم الريح، يحرّكون السكون، يثيرون المشاعر، يتركون أثرًا لا يُمحى بسهولة، بعضهم يجلب الدفء، وبعضهم يحمل معه البرد القارس. وهنا تكمن الحكاية كلها: ليس كل من اقترب منا يستحق أن يعرف الطريق إلى أعماقنا، فالقرب من الشخص الخطأ قد يفسد أجمل ما فينا، ويترك الروح تبحث عن نفسها بين أنقاض الخيبة والخذلان.
الثقة، تلك الكلمة الصغيرة التي تبني جسورًا بين القلوب، هي أيضًا السلاح ذو الحدّين. لا تُعطى كيفما اتفق، بل تُمنح على مراحل، كما تُفتح الأبواب الثقيلة بمفاتيح متدرجة. فلا تثق بمن لا تعرفه حتى تعرفه، ولا بمن تعرفه حتى تجربه، ولا تُسلم قلبك وعقلك حتى تطمئن وتستوثق، فالمواقف وحدها تكشف معدن النفوس، وتضع الأقنعة جانبًا، وتظهر من كان يبتسم بحب ومن كان يبتسم مكرًا.
الحكمة أن تظل بينك وبين أقرب الناس مساحة صغيرة لا تطأها الأقدام إلا حين يكون الأمان كاملًا، مساحة تحفظ لك نفسك وكرامتك، مساحة تذكرك أن الإنسان متقلب، وأن الحياة لا تأتي دائمًا وفق ما حلمنا، بل غالبًا تفاجئنا بما لم ننتظر. لذا لا تكشف أوراقك كلها، فالورقة الأخيرة قد تكون حبل نجاتك حين يشتد الخطر، وقد تكون الجدار الذي يحميك حين ينهار كل شيء من حولك.
إن الحياة تعلمنا كل يوم أن النقاء لا يكفي ليحمي أصحابه، وأن الطيبة وحدها لا تُحصّن القلوب من الطعنات، لكن الحكمة والحذر يصنعان الفارق. القلوب العاقلة تعرف أن تزرع الخير دون أن تسلّم مفاتيحها لكل عابر، تعرف أن تحب وتثق، لكن بعين ترى وبعقل يزن، فلا تُسلم زمام نفسها لمن لا يعرف قيمة الروح ولا حرمة القرب.
في النهاية، لا تُغلق أبوابك كلها، ولا تتركها مشرعة على مصراعيها، اجعلها تُفتح برويّة، تُغلق بحزم، واحفظ لنفسك مكانًا آمِنًا يعود إليك حين تخذلك الدنيا ومن فيها. فالحذر ليس ضعفًا، بل وعي، والثقة ليست غباءً، بل فنّ اختيار لمن يستحق.