بقلم الكاتبة الصحفية / سهام فودة
أما اليوم، فقد تحولت النميمة إلى صناعة رقمية، لها جمهور وشاشة وجمهوريات من المتابعين والناقلين، ودخلنا زمنًا جديدًا يمكن أن نسميه بلا تردد “أسواق النميمة الرقمية”، حيث لا نحتاج إلى فرن بل إلى لايك وتعليق، ولا إلى جلسة دائرية بل إلى تطبيق ذكي وخدمة بث مباشر، ولا إلى فنجان قهوة بل إلى سيل من الإشعارات. أصبحت الحكايات تُفبرك، والفضائح تُفتعل، وتنتقل من منصة إلى أخرى بسرعة فائقة، تُقاس لا بالثواني بل بالمشاهدات والمشاركات.
لم تعد النميمة تعتمد على الواقع بل صارت تصنعه. لم نعد ننقل ما حدث، بل نخلقه من العدم، نمنح شائعة كاذبة حياة، ونمنح صاحبها نهاية مأساوية لا يستحقها. لم تعد هناك حارات ضيقة، بل صارت هناك منصات مفتوحة، والجميع صار يطل من شرفته الرقمية ليرى من يسقط اليوم في فخ التشهير أو الاغتيال المعنوي.
في أسواق النميمة الرقمية لا يباع الكلام فقط، بل تُباع السمعة وتُشترى الكرامة، ويُفتّش في النوايا، وتُقطع المقاطع من سياقها، وتُنسج قصص كاملة من صورة وحيدة أو تعليق عابر، ويكفي أن ترفع حاجبك في فيديو لتُتّهم بالتكبر، أو أن تضحك صدفة لتُوصم بقلة الأدب، أو أن تبكي بحرقة فتُتهم بالتمثيل أو تصفية الحسابات.
وتكمن خطورة هذه الأسواق في أن الزبون فيها لا يشعر بأنه مذنب، بل يظن نفسه مراقبًا أو ناقدًا أو مجرد مستهلك للترفيه، رغم أنه شريك في جريمة معنوية مكتملة الأركان، يمررها بلا وعي، ويضغط زر المشاركة وكأنه يضغط على زر التفجير، دون أن يرى الدماء التي تسيل خلف الشاشة.
إن ما يميز النميمة الرقمية أنها لا تموت، بل تترك أثراً خبيثاً على أرواح البشر، تعيد إنتاج نفسها على هيئة تريند، تُدفن اليوم وتُنبش غدًا، وتُخرج الأرشيف لتغتال الحاضر، وتعبث بمستقبل الأشخاص، كأنها لعنة لا تُمحى، ولا تنسى، ولا تُغتفر.
بين جلسات النميمة القديمة التي كانت تُنسى مع انتهاء اليوم، وبين حفلات التشهير الحديثة التي تُوثق وتُصدَّر وتُحفظ في ذاكرة الإنترنت، تبدو الفوارق أكثر قسوة مما نتصور. النميمة القديمة كانت عابرة مثل دخان السجائر، أما الرقمية فهي مثل التسريب النووي، تدمر ببطء، وتلوّث كل ما حولها، حتى الهواء الذي نتنفسه صار محملاً بسحب من الحقد والتشفي.
وما يدعو للأسى أن هذه الظاهرة لم تقتصر على الأفراد، بل شارك فيها مشاهير، وصفحات كبرى، ومدّعو الثقافة، فتحولت بعض المنصات إلى مصائد للفضائح، وبدلاً من أن تكون منابر للوعي، صارت مناجم للتنمر ودوائر لتصفية الحسابات.
فأين ذهب العقل الجمعي؟ أين ذهب دور الكلمة في البناء؟ ولماذا تحولنا من ناقلي حكايات إلى متورطين في صناعة الكذب؟ هل نحن بحاجة إلى أخلاقيات رقمية تعيد ضبط هذا العالم المفتوح بلا رقيب؟ وهل سيأتي يوم نُحاسب فيه على ما نشرناه كما نحاسب على ما قلناه؟ وهل سندفع ثمن مشاركتنا الخفية في إذكاء حرائق الغير؟
ربما نحتاج إلى إعادة تعريف النميمة في زمن الرقمنة، إلى أن نُدرك أن اللايك قد يكون سكينًا، وأن الضحكة على فيديو مفبرك قد تكون صفعة على وجه مظلوم، وأن من يصمت أحيانًا أشرف ممن يصفق لجريمة معنوية مكتملة.
قديماً كانت الأم تقول لابنتها “خلي بالك من لسانك”، أما اليوم فنحتاج أن نهمس في آذان أبنائنا: “خلي بالك من إصبعك قبل أن تضغط زر المشاركة، فقد تشعل به حياة أحدهم دون أن تدري”.
هل من سبيل للخروج من هذه الأسواق؟ أم أن العقول أصبحت سلعة فيها أيضًا؟ هل سننقذ ما تبقى من الوجدان؟ أم سنظل نرقص حول نار النميمة حتى تلتهمنا جميعًا؟