بقلم دكتورة / هبه عبد العزيز
فى عالم متخم بالضوضاء الرقمية والتطبيقات العابرة تحول «تيك توك» من منصة ترفيهية سريعة الإيقاع إلى كائن متوحش يلتهم الوعى الجمعي، ويعيد تشكيل الذوق العام حتى أصبحنا نعيش فى زمن «الكبس»، حيث يمكن لحركة إصبع على الشاشة أن تصنع نجما وأن ترفع شخصا من العدم إلى واجهة الضوء دون جهد أو موهبة أو حتى مضمون حقيقى « أم فلان وأم علان وهمام وتمام.. إلخ» لم تعد الشهرة تُصنع على المسرح أو من خلف الكواليس بل على سرير أو فى مقهى أو داخل بث مباشر يملؤه ضجيج وصراخ، وطلب متكرر لا ينتهى اكبس اكبس اكبس، ومن رحم هذه الضغطة خرج جيل جديد من النجوم المؤقتين لا يملكون ما يقدمونه سوى استفزاز التفاعل واستدعاء الجدل والتجرؤ على الذوق العام ، ولم يعد «تيك توك» مجرد منصة ترفيه بل تحول تدريجيا إلى مسرح مفتوح لكل أشكال التفاهة والانفلات، وهو ما نشهده كل يوم حين نرى نجوما يخرجون من البث المباشر إلى المقابلات الإعلامية إلى الإعلانات إلى الشهرة، وكأنهم أصحاب رسالة، بينما هم فى الحقيقة أصحاب شاشة فقط منزوعة الرقابة والقيم على حد سواء.
وتشير الإحصائيات الحديثة إلى أن عدد مستخدمى «تيك توك» فى مصر تجاوز واحدا وأربعين مليون مستخدم نشيط يوميا أكثر من نصفهم من البالغين، ويقضى المستخدم المصرى العادى نحو ساعة يوميا على التطبيق كحد أدنى، بينما أكثر من ستين بالمائة من المحتوى الرائج يقع خارج دوائر التعليم والثقافة والفن ويتركز فى المساحات الجدلية أو السطحية أو المثيرة للغرائز هنا يصبح السؤال : هل نحن أمام منصة تعكس ما يريده الجمهور أم أمام مصنع يعيد تشكيل وعى الجمهور على ما يريده هو؟ ومتى نتوقف عن لوم الجمهور ونبدأ فى محاسبة صانعى هذا المناخ ؟ من يضبط إيقاع هذا الزمن السائل الذى تتغير فيه المعايير كل لحظة وتُمنح فيه الشهرة لمن يصرخ أكثر لا لمن يبدع، أكثر الدعوات لحظر «تيكتوك» قد تبدو مغرية لكنها غير عملية ولا تتماشى مع مناخ الحريات فى العالم الرقمى المعاصر ،لكن هذا لا يعنى ترك الأمور للفوضى، فالأمر لا يتعلق بالمنع بل بالضبط، ولا يتعلق بالوصاية بل بالمسئولية ولهذا فإن الحل الحقيقى يكمن فى تقنين عصرى يفرض رقابة ذكية على التريندات ويُخضع صناع المحتوى للمساءلة عبر فرض غرامات مالية ضخمة وعقوبات صارمة على من يسيء إلى القيم العامة، أو يستخدم المنصة كأداة هدم أخلاقى ومجتمعي.
فقد أثبتت التجربة أن الغالبية العظمى من هؤلاء لا يخشون القانون بقدر ما يخشون الخسارة، لأن المال هو المحرك الأول لهذا النمط من الظهور، وبالتالى فإن تحويل المنصة من أرض سائبة إلى فضاء منضبط بالقانون لن يكون تقييدا للحريات بل حماية لجوهرها، نحن لا نرفض أن يُعبر الناس عن أنفسهم بل نرفض أن تتحول حرية التعبير إلى سلعة رخيصة تُباع على حساب العقل والوعى والذوق، فزمن الكبس لن يدوم إذا وجد أمامه قانونا يكبس هو الآخر على الجشع والعبث والابتذال وهو حق الأجيال القادمة فى الحفاظ على مصادرالقيم المتجددة من خلال تنمية أخلاقية مستدامة .