كتب د / حسن اللبان
لطالما سعت مصر إلى تحقيق توازن دقيق في علاقاتها الاستراتيجية، دون الانحياز الكامل لأي معسكر بعينه. ويُعد هذا التوجه سمة بارزة في استراتيجيتها للتسليح العسكري. فعلى مدار العقود الماضية، جمعت القاهرة ترسانة دفاعية من مصادر متعددة حول العالم: مقاتلات أمريكية من طراز إف-16، ومقاتلات روسية من طراز ميغ-29/إم2، وطائرات رافال الفرنسية، ومنصات أسلحة تعود للعهد السوفيتي. غير أن هذه المنظومات لا تعمل بتناغم مع بعضها، مما يجعل التوافق التشغيلي تحديًا دائمًا. وكل صفقة تسليح جديدة تضيف طبقة إضافية من التعقيد، تتطلب أنظمة صيانة مختلفة، وبرامج تدريب خاصة، وعقائد تشغيلية متباينة.
وهنا تدخل الصين على الخط.
فقد دعت مصر سلاح الجو التابع لجيش التحرير الشعبي الصيني لإجراء أول مناورات جوية مشتركة على الأراضي المصرية، تحت اسم “نسور الحضارة 2025”. وقد شاركت الصين ببعض من أحدث منصاتها العسكرية، منها: طائرات النقل الاستراتيجي Y-20، والمقاتلات متعددة المهام J-10C، وطائرات الإنذار المبكر KJ-500، وطائرات التزود بالوقود YU-20. وقد استقبلت مصر هذه القوات بحفاوة
لكن هذه المناورة ليست سوى محطة جديدة في مسار طويل من تعميق العلاقات الدفاعية بين القاهرة وبكين. فعلى مدى العقد الماضي، استحوذت مصر بهدوء على عدد من المنظومات الصينية:
- مقاتلات J-10CE، مع تقارير تشير إلى احتمال شراء ما يصل إلى 40 طائرة من الجيل 4.5 المتقدم.
- طائرات مسيّرة Wing Loong، والتي استُخدمت بالفعل في عمليات مكافحة الإرهاب بشمال سيناء وتوفّر قدرة ضرب دقيقة.
- منظومات دفاع جوي HQ-9B، وهي مماثلة في مداها وتعقيدها لمنظومة S-400 الروسية.
- طائرات تدريب K-8E، يتم إنتاجها محليًا بدعم صيني.
ورغم أن هذه المنظومات تمنح القوات المصرية قدرات جديدة، إلا أنها تضيف إلى الفسيفساء المتنوعة أصلًا في هيكل الجيش المصري. فالأنظمة الصينية لا تتكامل بسلاسة مع نظيراتها الأمريكية أو الروسية أو الأوروبية الموجودة أصلًا في الخدمة. وسيكون دمجها تحديًا لوجستيًا وعملياتيًا كبيرًا. ومع ذلك، يبدو أن القاهرة مستعدة لتحمل هذا التعقيد. لماذا؟ على الأرجح أملًا في أن يؤدي تعميق التعاون مع بكين إلى فتح الباب أمام طائرات الجيل التالي، وأنظمة استطلاع متقدمة، ومنصات رادارية حديثة، وشريك استراتيجي أقل تقييدًا بسياسات الكونغرس الأمريكي أو بشروط حقوق الإنسان. بكلمات أخرى: تكنولوجيا أفضل، وقيود أقل.
خلال السنوات الماضية، واجهت مصر صعوبات متزايدة في الحصول على بعض الأنظمة الأمريكية، إما بسبب ضوابط التصدير أو التهديد بفرض عقوبات. وقد سعت فرنسا إلى سد بعض هذه الفجوات، لكن دعمها له حدوده. في المقابل، تعرض بكين منظوماتها بسرعة وبشروط أكثر مرونة.
ومع ذلك، فالمخاطر حقيقية. إذ تتلقى القاهرة نحو 1.3 مليار دولار سنويًا كمساعدات عسكرية أمريكية—وهو إرث من اتفاقات كامب ديفيد، وقد ساهم هذا الدعم في تحديث الجيش المصري وتعزيز مكانته الإقليمية. لكن هذا الدعم مشروط بتوقعات سياسية وأمنية، وقد يؤدي التقارب العسكري مع الصين إلى إثارة القلق في واشنطن. بالفعل، شهدت العلاقات الدفاعية بين مصر والولايات المتحدة توترًا. ففي عام 2015، فقدت مصر أهليتها للاستفادة من آلية التمويل المؤجل، وهي ميزة تُمنح لحلفاء واشنطن المقربين وتتيح شراء أنظمة أمريكية عبر خطط تقسيط طويلة الأمد. وكانت الرسالة الأمريكية واضحة: مصر تبتعد كثيرًا.
ومع ذلك، أبدت القاهرة استعدادًا لتحمّل المخاطر. فعندما حاولت شراء مقاتلات سوخوي سو-35 الروسية، رغم التهديد بعقوبات “قانون مكافحة خصوم أمريكا” (CAATSA)، أوضحت أنها مستعدة لتحدي الاصطفافات التقليدية. ويبدو أن الوضع نفسه يتكرر الآن مع الصين، إذ تُظهر مصر عزمًا متزايدًا على تعميق شراكتها الدفاعية مع بكين، على أمل الحصول على قدرات متقدمة دون الوقوع في فخ التبعية لطرف واحد.
لكن هذا التوازن هش. فبوسع القاهرة أن تتجاوز الخطوط الحمراء بسهولة، وتفقد بذلك التمويل الأميركي. ومع ذلك، قد تستلهم السلطات المصرية تجربة بعض دول الخليج مثل السعودية والإمارات، التي نجحت – حتى الآن – في الجمع بين الشراكات الأمنية مع كل من الولايات المتحدة والصين، رغم ما يرافق ذلك من توترات. ومصر، بدورها، تراهن على قدرتها على السير على هذا الحبل المشدود.