عاجل

السعودية.. البطل الأصهب “كانيلو” يستعيد لقب بطل العالم المطلق للملاكمة للوزن المتوسط   

# حين تبوح النساء .. “أوجُه عديدةٌ للموت”‏

بقلم دكتورة / أماني فؤاد

صدَرت عن دار العين للنشر 2025 رواية “أوجُه عديدة للموت.. تلاوات ‏البعث” للكاتبة رضوى الأسود. ‏
ينطلق السرد في هذه الرواية من منطقة برزخية، في المسافة بين الموت ‏والحياة، ففي فترة الإفاقة، بعد عملية انتحار، أقدَمتْ عليها بطلة النَّص، ‏تبوح بتفاصيل تجربتها في العشق مع رجُل أناني، استخدمها، لكنه لم ‏يحبها، وتتقاطع هذه المأساة مع بَوْحها بطبيعة علاقتها المتيبِّسة بأُمِّها ‏وأبيها، فتُعرِّي البطلة كوامنَ مشاعرها وكهوفها الشخصية، وهي في منطقة ‏بَينية بين الموت والحياة، لا شيء يتحرَّك فيها سوى عقْلِها، فتبوح بمراحل ‏علاقاتها العاطفية، ومَشاهدَ من طفولة محرومة.‏
ــ أشكال الخطاب السردي ‏
‏ تُحدِّث البطلة نفْسَها، تارةً في منولوجات طويلة، تستبطِن فيها ذاتَها، ‏وتُعاوِد رؤية الأحداث والمواقف، التي مرَّت بها مع حبيبها، فينتابها جميع ‏التناقضات حوله، وحول العلاقة ذاتها، وأسئلة الحب بصورة مطلقة، ‏والعلاقات الأزلية.‏
‏ ويُعَدُّ استخدام رضوى الأسود لضمير أنا الساردة – في هذا النَّص – جرأة ‏وخطوة لتحرُّر بَوْح المبدعات الشرقيات، حيث يتناوَل النَّص علاقةً مكتمِلة ‏بين حبيبَين. في فقرات أخرى تُحدِّث البطلة حبيبَها، تلومه وتعاتبه، وتحكي ‏له تَبِعات خُذلانه لها، وتصِف انكساراتِها، في جرأة ووعي شديدَين بواقع ‏العلاقات بين المرأة والرجُل، تفاصيل تحدُث كل يوم، وهو ما يُحسَب ‏للكاتبة.‏
في مناطقَ أخرى، تخاطب الساردةُ قارئًا مفترَضًا، تقُصُّ له مأساتها، ‏ويعتمد الحكي على تقنية الفلاش باك؛ حيث تبدأ أول المَشاهد بالبطلة ‏وهي جسَد هامد على سرير في أحد المستشفيات، بعد محاوَلة انتحار ‏مميتة، لكنَّ البطلة قرَّرت في النهاية ألا تفارق الحياةَ وهي على حافة ‏الموت تمامًا، بدَّلت طريقَها في سرداب الموت، وذهبت إليه روحًا وليس ‏جسدًا، تقول وهي في هذه الحالة: “أشعُر أنني أمتلك زمام العالَم بأسْره، ‏أستطيع تحريكه كيفما ومتى أشاء، يبدو أن هيئتي الأثيريةَ تملك من القوة ‏والسِّحر ما لم تمتلكه يومًا هيئتي الماديةُ، يبدو أن الروح السابحة في الأثير ‏هي الحقيقة، وما يقوِّضها -من جسَدٍ تستكين بداخله- هو الزائف. القوة ‏تربض خلْف الحقيقة، وأنا الآن قوية بما يكفي لأجعلك تسمعني وتشعُر ‏بي، لأجعلك تَعِي الأشياءَ لمَرَّة واحدة وأخيرة!” 183.‏
وهنا أودُّ أن أشير لجانب صوفيٍّ متعقِّل نسبيًّا في هذه السردية؛ بمعنى أن ‏البطلة تُطِل برأسها دومًا لتعلِّقَ على قضايا الكتابة، أو بعض القضايا ‏الفكرية والصوفية، وهي إذ تُطِل؛ تناقش هذا التوجُّهَ الصوفيَّ بنوع من ‏الحِسِّ البحثي، أكثر من كونه شطحة تَعَالٍ، كأنه تصوُّف اضطراريٌّ بعد ‏ضياع الحُب، وانكشاف الاحتيال والأنانية، التي مارَسها الحبيبُ نحوها.‏
تقول: “أصبحت مستبصِرة يا حبيبي، انقشعَت عنِّي الحُجُب، منذ أتيت إلى ‏هنا، منذ أن وجَدتني أشعر بكل ما حولي، دون أن يشعر بي أحد.. منذ ‏وجدت جسدي يتحرَّك، وأنا أبدو للعيان ساكنة كجُثة.. منذ أن فاضت ‏الحياة من كل جنَباتي، وهم يُقسِمون بأنني ميتة! ليتني قبْلًا كنت وصلت ‏لعتبات البصيرة التي تفتَّحت عن آخِرها الآن” 50.‏
وضمْن تقنيات السرد، وفي نهايات بعض الفصول، تُورد الساردةُ تعليقاتٍ ‏حول ما تكتبه، باعتبار أنها تكتب رواية، تحاوِر وتعلِّق فيها على الكتابة ‏ذاتها، فيما نُسمِّية مِيْتَا سرْد، أو حضور الكتابة ضمْن السرد، وتصنعه ‏الروائية لكسْر الإيهام، وقطْع الاستغراق التام في الحكي، كما أنها ‏تستحضر القارئ وتشاركه بعضَ وجْهات نظَرِها فيما قالته بطلتُها، وتأتي ‏تلك التعليقاتُ بخَطٍّ مختلِف، مثل قولها: “هذه الفقرة تحتاج لمزيد من ‏السرد. بعد العبارة الأولى، وفي سياق التذكر، من الممكن ربْط فراغ المَعِدة ‏والرِّيق الجاف، بالأعراض الجسدية، التي كانت تعاني منها البطلة بعد ‏انتهاء العلاقة، كالنزْف والبُقع الحمراء..”104.‏
وفي مقام هذا النص نطرح تساؤلا: هل اعتادت المجتمعات الشرقيةُ تقبُّل ‏أن تتحدثَ المرأة، أن تبوح بضَعفها، آلامها الأُسرية، وعلاقاتها العاطفية، ‏بخذلان الرجُل لها وخياناته؟
يخبرنا التاريخ أن المجتمعاتِ الشرقيةَ ترفض بوْح المرأة، لذا منعَتها قديمًا ‏من التعلم والكتابة، ترفض أن تعبِّر عن نفْسها، تحت اعتبارات متعددة: ‏أولها الستر، والبعد عن الفضائح؛ فعوَّدت النساءَ أن تصمُت، وحين تتكلم؛ ‏لا يُقبَل منها هذا، وتُهدَّد أو تُقتَل، وتصِف ثقافةُ المجتمع الأبوي أيَّ بوح ‏أنثوي بالابتذال والسقوط، أو بالفضائحية، بالقصص الكئيبة التي ترمي ‏مسئولية الفشل على الرجُل.‏
ولو أرجعنا الأمر لعُمقه؛ لوجَدنا أن هذه التقاليد لحماية الرجُل، وسُمعته ‏بالأساس، لتظَل أفعالُه وشطحاته ونزواته الأنانية طيَّ الكتمان، على المرأة ‏التعقل والتحمل، وأن تظَل كتومةً. حيث يعتمد الرجُل -حين يترك المرأةَ ‏التي عاش معها علاقة سِرية- على كونها لن تفضَحَ نفْسَها.‏
حطَّمت (رضوى الأسود) هذا التابوه مع شخصية هذا النَّص، وخطَت ‏لمسافة، لكنها لم تكسِّره تمامًا. ظلَّت مناطقُ ما معتِمةً، وهو ما تبدَّى في ‏طبيعة اللغة والصياغات. ‏
ما تفعله رضوى وكاتباتٌ أخريات منذ عقود، يُعَدُّ أيديولوجيا جديدة، بمعنى ‏أنهن – باعترافاتن وبوحهن – ينقلن الواقع من وجهة نظر النساء، ويقُلن ‏لدينا أوجاعنا من الرجُل، وسنعبِّر عنَّا، يكسرن مقولة إن النساء حين ‏تبُحن؛ تفضحن أنفُسَهن.‏
ــ تفاوُت إيقاع السرد في النَّص
يتفاوَت إيقاع السرد في رواية “أوجُه عديدة للموت”؛ يتسارَع نبْض بعض ‏مناطق الحكي، وهو الذي تحكي فيه البطلة قدر الخديعة التي تعرَّضت ‏لها، وقدر سذاجتها، وكأنها تعنِّف نفْسها، تقول في المقارنة بينها وبينه: ‏‏”مِن دونك كانت حياتي اغترابًا تامًّا، موتًا، لكني أجزم إن حياتك كانت ‏لهاثًا لا ينقطع لتخليد اسمك في سِجلات العمل، وتخليد ذِكراك فوق أجساد ‏النساء” 123. مناطق أخرى يخفُت فيها الإيقاع العام للسرد، ‏حيث الفقرات التي يتكرر فيها نفْس المعنَى، لكن بأساليب ‏أخرى، فيبدو السرد قد خفُت إيقاعه، وهو ما قد يدفع ببعض ‏الملَل من تكرار المعنَى ذاته بأساليب متعددة.‏
ــ الزمكان ورمزية بعض الموجودات ‏
عُمْر تجربة الحُب والخُذلان – التي يجسِّدها النَّص – ليست طويلة، ثلاث ‏سنوات أو أكثر قليلًا، لكنَّ عُمْرَ أوجُه الموت والعذاب والفقد الأخرى في ‏النَّص ممتدة؛ أيْ حياة البطلة كلها. تجارُب مجهَضة، سواء على المستوى ‏الأُسري أو التاريخ العاطفي، تجارُب لا تترك سوى بصمات اليأس والقنوط ‏على جسَد البطلة وروحها، وتستخدم الكاتبة تقنيةَ المونتاج السينمائي، ‏لتقطيع الزمن منذ بداية كل فصل، والتقافُز عبْر فجَوَاته وأحداثه.‏


لا تكتفي الروائية بتجربة بطلتها فقط؛ بل كثيرًا ما تدعَم المعاني والمفاهيم ‏‏- التي تعيشها البطلة – بأقوال الفلاسفة والعلماء، كأنها تضفِّر عالَمَها ‏بعالَمِهم، وتعلِّق على تجاربها بمقولاتهم، كما تضاعِف تِيْهَ المعاني ‏وتناقضها، بتعدُّد التوجُّهات التي ينظر إليها الفلاسفة كلٌّ من منظوره. ‏تقول: “هُراء كل ما نعيشه ونسمعه، يتجلَّى تضاد كل المفاهيم وكل ما ‏قرأناه على لسان أعظم الكُتاب والفلاسفة والمنظِّرين، فبينما يؤكِّد بارمنيدس ‏أننا ثابتون، يؤكد هيراقليطس أننا متغيِّرون، وبينما يقول أفلاطون بأننا ظِلُّ ‏الحقيقة، يخالفه أرسطو بقوله بأننا الحقيقة، أما فولتير فيتشدَّق بقيمة ‏التسامح مع الآخَر، بينما نيتشه يقول بأنه لا يوجد شيء غير القوة، هيجل ‏يقول بأن العالم هو الوعي، وماركس يقول إن الوعيَ نتاج المادة” 202. ‏وهكذا. وقد يرى البعض أن هذا الحشدَ – من أقوال ونظريات ‏الفلاسفة – يفتح أفق القَص في الزمان وتجارُب البشر، أو يراها ‏البعض الآخَر تثقِل السرديةَ، وتحوِّل بعضَ فقراتها لطقس ‏الأبحاث؛ لكونها مادة تفتقر نسبيا لانسيابية السرد وجريانه.‏
كما يتجلَّى المكان الرئيسُ – في الرواية – على فِراش الموت بإحدى غرف ‏المستشفى، لكن البطلة تقاوِم هذا الاختناق المكانيَّ؛ فتنطلق الذاكرة، ‏وروحها اليقظة، وتجوب بنا في كل الأماكن، التي شهِدت قصة عِشْقها ‏لهذا الرجُل، وتعدُّد خيانته وخذلانه لها، وفي هذه الاسترجعات تركِّز على ‏منطقة الزمالك، حيث اللقاءات بين الحبيبَين، ومناطق أخرى بوسط البلد ‏ومصر الجديدة.‏
لكن يبقى نفَقُ الأزهر -بظُلمته وضِيقه واستطالته- هو المكان ‏الذي رأيته معادلًا موضوعيًّا لقصة العشق السِّرية المحبِطة تلك، فلقد اتسَق ‏النفق المظلم مع العشق السِّري، وعلاقة شائكة مع رجُل له زوجة وأبناء. ‏كما بَدَت الأماكن والبيوت والحجراتُ خانقةً ومضبَّبة وسِرية، مهما اتسعت، ‏حيث تجسِّد علاقة متوترة، باردة وجافة، بين البطلة وأبوَيها.‏
كما ذكرني صندوق الهدايا، الذي أعدَّته البطلة لحبيبها، بصندوق ‏بنادورا بطريقة ما، حيث أنبأ بالكثير من مستقبل العلاقة، فالبطلة هي التي ‏ستهَبُ الكثيرَ، ولن تأخذ إلا أقلَّ القليل.‏
وللرواية بنْية دالة ثانية، غير خذلان البطلة في حبيبها؛ موت آخَر يتقاطع ‏مع موت عِشْقها، حيث تعقُّد علاقتها الأُسرية، ومعاناتها منذ صغرها مع ‏قسوة أمها، وانتقادها لكل تصرُّف تقوم به، عانَت شخصية القَص من ‏الافتقار للاحتضان والحنان من أمها، وغياب الأب التام، تقول: “أوَ ‏تعلمين يا أمي، وأنا طفلة صغيرة كنت أهابك كما أهاب الله، كنتما بالنسبة ‏لي تقفان على الدرجة نفسها من الترهيب والوعيد، نضجتُ يا أمي، وتحوَّل ‏الله مع الوقت لإله الرحمة والحب والاحتواء، ومع الوقت، ازددت أنت – ‏كإله غاضب – بطشًا وتنكيلًا ولفظًا لكياني، لكن تُقت لأن تكوني إلهي ‏الأرضيَّ الذي أبُثه خذلاني ومراراتي؛ فيقوم بمعجزات صغيرة كتربيتة على ‏الكتف، أو عناق يطمئن روحي، يطمئنني بأنني لست وحدي” 25، 26. ثم ‏في مرحلة متأخرة، بَعد كِبَر الأب والأم ومرضهما؛ الأب بألزهايمر والأم ‏بالفشل الكلوي، ومرات الغسيل المتكرر، وعنايتها بهما، وما رَاودها ‏للحظات من رغبات انتقام بالتخلًّص من عبئهما، كنوع من عقابهما على ‏القسوة والوحدة، التي ظَلت تشعر بهما طيلة حياتها رغم كونهما على قَيْد ‏الحياة. ونستكمل بالمقال القادم.‏

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net
موقع الرسالة العربية