بقلم دكتور / عمار علي حسن
لست أبدًا من أولئك الذين يتوهمون أن معين مصر الإبداعي قد نضب أو تراجع، في الأدب والفكر والعلم، فلديّ من المؤشرات والقياسات ما يؤكد عكس ذلك، خذ مثلًا عدد المصريين الذين يتقدمون إلى الجوائز والمسابقات المصرية والعربية في الرواية والقصة والشعر والمسرح والسيناريو والتصوير والفن التشكيلي وغيره، وخذ عدد المعروض على دور النشر الحكومية والخاصة، ولاحظ التطور الذي تحويه بعض السيناريوهات المعدة كأفلام أو مسلسلات، المقدمة لهذه المسابقات، وانظر إلى الكثير المكدس في الأدراج ولم يقدم لأي جهة. وخذ مثلًا عدد الموهوبين في تقديم المحتوى على اليوتيوب، وكتبة التعليقات المضحكة أو الأفكاراللامعة على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي جعلني أقول يومًا: أظهر فيسبوك وتويتر أن في مصر ألف أحمد رجب الكاتب الساخر الموهوب، وخذ مثلًا التقدم الهائل في فن التمثيل بين الجيل الحالي ومن سبقه، ومثله ما يقدم حاليًا من تجديد في ألوان الكتابات الأدبية ويضيف الكثير في الشكل والمضمون إلى ما تركه الرعيل الأول، ستتأكد من أن المشكلة هي في “الفرز العكسي”، الذي زاد إلى حد كبير، حيث أن هناك أسبابًا تحول دون صعود الجيد، وتفعل غير ذلك، وهذا يجب تغييره.
كما يجب أن ينبع كثير من الأعمال الدرامية والسينمائية من أعمال روائية وقصصية كتبها أدباء، كما كان يحدث في السابق، فهذا يعطيها عمقًا، ويمثل لها مرجعية لمسها ممثل كبير هو نور الشريف، حيث كان يحرص، قبل الإطلاع بإمعان على السيناريو المقدم إليه على قراءة الرواية المأخوذ عنها بإمعان وشغف شديدين أيضًا.
فكثير من أعمالنا السينمائية والدرامية البارزة إما مأخوذة من روايات وقصص منشورة لأدباء، أو كتبها سيناريست له خلفية وذائقة أدبية، مثل أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد، اللذين كانت بدايتهما كاتبين، وسرب حامد قدراته ككاتب إلى السيناريوهات، فيما حرص عكاشة على نشر عمل روائي قبل وفاته، واليوم يتفوق عبد الرحيم كمال لكونه أديبًا له رواياته، أو يقوم بتمصير أعمال أدبية عالمية، أو يستفيد من قراءته لأعمال أدبية مصرية حديثة ومعاصرة. أما نحن اليوم في زمن الورشات التي تنتهي إلى أعمال غير متناغمة، أو المخرج الذي يكتب بنفسه القصة والسيناريو، في استسهال شديد.
المعين لم ينضب، وما يقدم الآن في الأدب والفكر بعضه إضافة واسعة وعميقة إلي ما تركه السابقون، لكن آفة الحاضرين تقديس ما مضي، وآفة المثقفين أنفسهم، ومن ثم الجمهور العام، هو الاستسلام للقاعدة التي تقول: “المعاصرة حجاب”، وبعض هذا أحقاد وإحن، وبعضه عجز عن المتابعة أو جهل بالكثير مما يقال ويكتب وينشر، وبعضه طبيعي لأننا في مناخ تقوم فيه العملة الرديئة بطرد الجيدة، ويعلو فيه صوت الأدعياء على الأولياء.
أقول هذا، بعد قراءة، لكثير جدًا مما تركه المؤسسون ومن تبعوهم ممن سبقوا على درب الأدب والفكر في مصر، ومواكبة ما يكتب وينفذ حاليًا في مختلف فنون الإبداع.