بقلم دكتور / حسن مغازي
(بيلا) اسم(الدلع)لبطلتها(سبيل)؛ تلك الفتاة الجامعية الجميلة، تعيش مع والديها وإخوتها فى حى فقير، تحتاج إلى الإنفاق مع والديها على إخوتها، يضنيها البحث عن(عمل كريم)، تعانى من(مضايقات)فى كل عمل تتجه إليه، تترك ذلك كله، تفضل أن تكون(خادمة)لدى عائلة(غنية)، تجد ذلك العمل أكثر(احتراما)، وأغزر مالا، لكن جمالها الفائق يغرى بها الشابين الشقيقين اليتيمين فى تلك العائلة؛ (حسن)الشرس، يتركها لشقيقه(سعيد)الضعيفة شخصيته، تسيطر على جوانحه، وتفعم شغاف قلبه، لكن عمهما(كامل بك)يرفض تزويجهما، فيتزوجها(سعيد)رسميا فى الخفاء، وتحمل منه، وتجبرها أحداث عاصفة على ترك منزل تلك العائلة، ولا يمكنها العودة إلى بيت أهلها؛ لأنها حامل من دون أن يعلموا بزواجها، تأويها حجرة فى سطوح منزل الممرضة(فردوس)، يتحرش بها ابناها المراهقان، تستغل حالها تلك الممرضة لدرجة أن تتفق مع أسرة غنية عقيم على بيع الجنين لهم فور ولادته، تكتشف(بيلا)ذلك، فتضطر إلى الاتصال بزوجها، تحتمى به، ولا تعلم أنه(انتحر)حزنا على فراقها، يرد على اتصالها شقيقه العائد من أمريكا فور علمه بواقعة الانتحار، يحاول الانتقام منها، لكن أحداث الرواية تجبره على التزوج منها عرفيا بعد ولادتها الطفل(شادى)تاركا خطيبته الغنية المتعجرفة(سارة هانم)إلى حين، لكنه يضطر اجتماعيا إلى تطليقها، والعودة إلى خطيبته، ثم يضطر بعد إصابة(بيلا)بالجلطة إلى ترك(سارة هانم)، والذهاب إلى أهل(بيلا)فى الحى الفقير، يخطبها منهم، وتمر الأحداث …
شأن كل عمل روائى فصلها الأول لم يجذبنى، إنما تسارع الأحداث بعده، وتلاطم أمواج المشاعر يجبر المتلقى على الغوص أكثر فى الرواية، مشاعر المتلقى تتأجج مع كل حدث، يتنامى الشعور متشبثا بتلابيب المتلقى، يتسامى به إلى نبل الاختيار …
تنماز(أمانى عطا الله)فى عملها هذا ـ ربما من دون أن تقصد، بل ربما من دون أن تدرى ـ بإتقانها إقناع قرائها ليس فقط بـ(مكونات السرد)فنيا، وإنما بتحويل(السرد)إلى كثير من مكونات(السيناريو)؛ بأن تحول المقروء إلى مشاهد، بأن تمنع كلام البطل نهائيا، وتحكى لنا ما بداخله من دون أن ينطق، من ذلك مشهد(حسن)مع(بيلا)فى تحطيمها(برواز سعيد)فى الصحيفة 207:
(كاد أن يطرق رأسها بسيل من التوبيخ العنيف، لولا جرس الباب الذى دق فجأة، فلوح بيديه فى الهواء، وزفر بوجهها ساخطا قبل أن يتوجه؛ ليستعلم عن الطارق).
من ذلك رد(حسن)على(مختصة تفصيل الملابس)عندما أعلنت استحالة كفاية الوقت لتجهيز مقدار الملابس المطلوب فى الصحيفة 208:
(زم حسن شفتيه صامتا، فابتسمت الفتاة، وهزت كتفيها فى قلة حيلة).
من ذلك تعبيرها عن شعور(بيلا)مستمعة إلى طلب(حسن)من(مدام سيمون)أن ترسل إليه(شيرى)الساعة السابعة فى الصحيفة 209:
(قاومت رغبة ملحة لسؤاله عنها، ولكن السؤال انحشر فى حنجرتها، وابتلعته، مرغمة، فطل جليا من عينيها، تجاهلها عمدا حتى المساء، عندما جاءت إلى المنزل فتاة تشبه الببغاء).
فى جميع تلك المشاهد أنت لا تقرأ كلمة واحدة سردا للتعبير، وإنما تشاهد انفعالات، وتشعر بأحاسيس من دون كلام نهائيا؛ ذلك أهم ما فى(علم السيناريو).
(البطولة)فى الرواية متجهة إلى فتاتها(سبيل)، لكن الشخصية المحورية من أول الرواية حتى منتهاها مؤثرة بل موجهة جميع أحداثها وجميع أشخاصها، وصانعة العقدة، ومعمقة الصراع، ومقترحة الحل كانت شخصية(كامل بك)؛ إنه فى هذى الرواية يذكرنا بشخصية الفنان(حسين رياض)فى رائعة(يوسف السباعى)الفيلم السينيمائى(شارع الحب)بإخراج عز الدين ذى الفقار فى 1958؛ (إنت اللى ح تغنى يا منعم)، بتلك الجملة الأيقونة على لسانه(مختار صالح)، أو قل(حسين رياض)فى مونولوج مفعم بالإنسانية والصدق والإخلاص، ضع فى مقابلها هنا قالة(كامل بك):
(تزوجْها يا حسن … !).
اعتمدت(أمانى عطا الله)على غريزة الأنثى كثيرا كثيرا فى تنمية الأحداث، وفى تحليل الأشخاص؛ بما يستحيل أن يصل إليه(الكاتب الذكر)؛ لأنه شأن أنثوى خالص:
من ذلك وصفها غرام الأنثى رغم قسوة الحبيب، بل استمتاعها بقسوته فى الصحيفة 250:
أغلق الخط ساخطا، تثاءبت مغمضة العينين، أهدابها أثقل من أن ترفعها الآن، أصابعه التى داعبت وجهها ليلة أمس ما زالت بصماتها تدغدغها فى نشوة تضاهى قسوته، ابتسمت فى سعادة، وهى تجاهد لتفتح عينيها قبل أن تتسعا سخطا ما إن نظرت إلى المنبه الصغير بجوارها سريعا، ما زالت الساعة الثامنة صباحا، يا له من طاغية مستبد).
من ذلك وصفها شعور الأم فى الصحيفة 261:
كان عايز يأكِّلك زى ما بتأكِّله
فى تعليقها على سلوك طفلها(شادى)ناقلا أصابعه الصغيرة من طبق الملوخية إلى وجه عمه(حسن)
لكن(أمانى عطا الله)فى وصفها مشاعر الرجال أقل دقة بحكم أنها ليست رجلا، ولم تجرب مشاعر الرجال، إنما تصطنعها فى الصحيفة 253:
تعلقت عيناه بوجهها فترة قبل أن يناديها بصوت، حاول أن يجعله خشنا بقدر استطاعته، لكنه خرج همسا ناعما، وكأنه يخشى أن تستيقظ بالفعل.
فالمعهود فينا نحن الرجال اقتدار ضخم على السيطرة فى إظهار ما نريد، وفى كتمان ما لا نريد إظهاره.
ثم إن(أمانى عطا الله)أيضا بحكم أنوثتها ماهرة فى وصف غيرة الأنثى من غريمتها، من ذلك فى الصحيفة 312 حوار(حسن)مع(بيلا)عن غريمتها(سارة)عندما أعلنت عن رغبتها فى الذهاب إلى السينيما:
ما تتحركيش من هنا، ح أوصل(شادى)لجده، وأرجع لك.
بعدين(سارة هانم)تزعل ؟
موش كل شوية تقولى لى الكلمتين دول، يعنى يهمك زعلها قوى ؟
أجابته فى مكر:
طبعا يهمنى زعلها قوى.
وتظهر براعة(أمانى عطا الله)فى إبراز(غلاسة أسئلة الأنثى)وقت انشغال حبيبها عنها فى الصحيفة 315:
أشاح ببصره عنها سريعا متظاهرا بتفحص المكان من حوله، تنهدت قائلة:
إيه رأيك فى فستانى ؟
التفت إليها فى دهشة، ثم هز رأسه صامتا، لكنها عادت تسأله:
طيب، وشعرى ؟ متسرح كويس ؟
كويس
يعنى شكلى على بعضى كدة عاجبك بنسبة كام فى المية ؟
ويمكننى بكل موضوعية أن أضم(أمانى عطا الله)تلميذة فى مدرسة ما يسمى(مدرسة المتنبى فى الاتكاء على المتناقضات)، من ذلك لحظة إعادة شادى ليلة احتفالهم مع(سارة هانم)بعيد ميلاده وحرمان والدته من تلك السعادة، إعادته من سيارة عمه(حسن)إلى والدته فى شقتها فى الطابق التاسع، والمتوقع أن تسلمه إليها الخادمة(نورا)فى الصحيفة 341:
لم تكن(نورا)هى من تحمل طفلها، بل(سارة هانم)
كرهها مصحوب بالشماتة هذى المرة، شماتة من لون آخر، لم تره يكسو قسماتها من قبل، ابتسامتها تحمل انتصارا، يوازى هزيمتها قسوة، تسكنها لذة بحدة طعم مرارتها …
لا سيما عبارات التشفى التى برعت(أمانى عطا الله)فى إبرازها تلك اللحظة على لسان(سارة هانم) فى الصحيفة 243 مودعة الطفل إلى حضن والدته:
باى يا روح(سارة)، و(حسن)
من ذلك فى الصحيفة 288 فى عرامة غيرة(بيلا)من اتجاه(حسن)إلى الزواج من(سارة)قادما ليأخذ(شادى)إلى جده(كامل بيك)آمرا(بيلا)بأن تجهزه للخروج، وهى فى تبديلها ملابس طفلها تقتلها الأفكار، وتعتصرها المشاعر، وتبحث عن وسيلة:
(تزينت، وتعطرت؛ مثله لن تجدى معه الدموع)
تنويع الأنثى أسلحتها حسب السياق فى مواجهة حبيبها تحت وطأة الغيرة من غريمتها:
(ح ترجعوا الساعة كام ؟ )
حضرتك رايحة على فين ؟
(رايحة النادى، ممكن تسيب لى فلوس ؟)
حدق فيها صامتا، فأردفت:
(على العموم لو موش معاك فلوس زيادة دلوقتى ما فيش مشكلة؛ ح أقول لهم إنى مرات حسن بيه شاهين، ويبقوا يبعتوا لك الحساب ع الفيلا)
هل كان أمام(أمانى عطا الله)نهاية أخرى فى روايتها أفضل من أن تتهور(سارة)بمحاولتها قتل(سبيل) ؟
سؤال عريض يأخذنا إلى دقة اعتمادها على(الوظيفة النحوية)فى التعبير عن المشاعر؛ فالتمييز المنصوب(عجزا)فى الصحيفة 346:
عضت على شفتها(عجزا)، وهى تراقب رعدته وشهقاته التى تعاقبت مرارا قبل أن تسترخى ملامحه …
(عجزا)وحدها منحت المتلقى سطورا وفقرات متعددات من الدلالة.
وكذلك اعتمادها على تعدد المعطوفات فى الصحيفة نفسها 346:
صداع وغضب وخوف وغيرة، مزيج ملعون جسد فيها جنونا فاق تحملها، فخرجت إلى الردهة عدوا، نظرت إلى صورة(سعيد)فى تحدٍّ، وما لبثت أن نزعتها من فوق الجدار، حطمت إطارها بعنف غير عابئة بأشلاء الزجاج التى أدمتها …