بقلم ـ غادة انور درويش
كم يراوضنا الحنين إلى الماضي حين تطرق آذاننا كلمات وألحان كنا قد اعتدنا على سماعها في الصِّغَر سواء كانت على الشاشات أو في الإذاعة.. وكم يملأني الحزن حين أشاهد ما يعرض لنا في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة من ابتذال أخشى على أبنائي من رؤيته.
فالإعلام يا سادة هو ما يشكل وجدان الشعوب.. فلنعقد مقارنة بسيطة بين الأجيال الحالية التى تربت على الفضائيات والشبكة العنكبوتية وبين أجيال تربت على قنوات التليفزيون المحلية ومحطات الإذاعة التابعة للدولة كالبرنامج العام وغيرها من الإذاعات.. فقد كان في الماضي الاهتمام الأوحد للإعلام بكل روافده هو التنشئة الاجتماعية السليمة وغرس المبادئ والقيم المثلى داخل وجدان كل فرد فأصبح الخارج عن هذا الإطار هو الشاذ عن القاعدة..
كانت الأخلاق تأتي من القمة لتنتشر حتى تصل للقاعدة، أما الآن فقد أصبحت القاعدة هي الانحلال وأصبحت الاستقامة عملة نادرة نبحث عنها في خضم الزحام الشديد الذي نعيشه.. واصبحت السلوكيات غير المقبولة تأتي من القاعدة السفلى لترتفع وتتوغل حتى تصل للقمة
من منا يتذكر المشاعر الجياشة التى كانت تداعب آذاننا في الطفلولة مع صباح كل يوم على صوت الإذاعية الراقية فضيلة توفيق التي تربى على صوتها أجيال وأجيال؟
من منا يتذكر الصورة المثالية التي كانت تحاكينا بها الإعلامية الراقية نجوى ابراهيم وغيرها من الإعلاميات الأمهات اللاتي شكلن وجدان أجيال كاملة؟
من منا يتذكر الصوت الشجي للفنانة الجميلة سميرة عبد العزيز حينما كانت تلقي على أسماعنا مقولة (كان لي صديق فيلسوف.. بأقوال الحكماء شغوف) وكم تلقينا من هذا العمل الفني العملاق حكم ومبادئ شكلت وجدان أجيال على مدار أربعين عاماً بصوت الفنان سعد الغزاوي.
كم كان للسينما دور هام في الترويج للقيم عن طريق شخصيات مؤثرة كالفنانين فريد شوقي حسين صدقي وغيرهما الكثير من الأبطال الذين روجوا للمثل والقيم النبيلة؟
من منا ينكر أن اسم مصر في الخارج يحمل لواء عليه أسماء عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ؟
أما الآن وفي زماننا هذا أصبحنا نتجرع كل يوم جرعات من الخزي والعار الذي أصبح معتاداً في حياتنا اليومية وكم هائل من الترويج للسفه والبلطجة.. أصبح الإعلام الهادف لا يجدي أمام كم الإسفاف المحبط الذي يقتحم بيوتنا كل يوم من قنوات ليس لها ضابط ولا رابط وانعكست نتائجه على سلوك أفراد المجتمع في الشارع وفي العمل وفي كل خطوة نخطوها.. لقد أصبحت الكثير من المنصات الإعلامية نقمة على حياتنا وحياة أبناؤنا والنتيجة أن أصبحت القدوة متمثلة في شخصيات هي في الحقيقة عار على المجتمع وأصبح نجوم الصف الأول هم نجوم العشوائيات والبلطجة والمخدرات وأصبح الإنسان المحترم والمثالي مسار للسخرية والإهانة. لكم تغمرني الدهشة والصاعقة حين أشاهد أشخاص هم في الواقع رموز للعلم والثقافة ويستمتعون بسماع الأغاني التي يطلق عليها اسم المهرجانات.. كيف ومتى وصلنا الى ذلك الهراء؟ وإلى متى سنستمر في هذا وكيف سيكون حال الأجيال القادمة؟
علينا أن ندق ناقوس الخطر انقاذا للمتبقي منا وانقاذاً للأجيال القادمة.. علينا أن ننقذ أبناؤنا من الطوفان القادم قبل أن يدمرنا ويدمر أبنائنا.. فالفن هو عنوان الشعوب وعلينا تعديل مسار مجتمعاتنا بالفن الهادف والإعلام المثالي في زمن أصبحت فيه المثالية الراقية تائهة.. علينا أن نتكاتف لكي نصد ذلك الطوفان قبل ان ننجرف معه وخلفنا أجيال سوف تحاسبنا على ما اقترفناه في حقهم أمام التاريخ ثم أمام الله.