بقلم / د. فوزى فهمى
تشهد معطيات التاريخ أن الولايات المتحدة الأمريكية حققت – داخليًا – مستوى عاليًا من التطور السياسى تحكمه قيود دستورية، أسست بنيات لمؤسسات التوظيف الديمقراطى التى تشدد على المعنى السياسى للمواطنة، بوصفه مبدأ الشرعية السياسية، الذى يقوم عليه التنظيم المجتمعي، وأيضًا بوصفه الأداة الحاسمة التى تتيح لهذا التنظيم أن يتحقق فى سياقه مجتمع «موزايك» تحكم التعددية الثقافية كيانه الاجتماعي، حيث لا يشكل الاختلاف العرقي، ، أو الديني، أو الطائفي، حدًا نفسيًا بين المواطنين، أو يمنع عنهم حقًا مشروعًا لهم، وصحيح أن أى مجتمع فى محاولته السيطرة على مستقبله، قد يواجه تحديات أو مشكلات، أو تهدده أزمات، حيث يخضع نوع الأزمة وفقًا لتقديرات نظريات الأزمة السياسية، إلى احتمالات، أولها: أزمة مصيرها الموت، وتعنى انهيار الدولة، وثانيها: صعوبات سياسية مزمنة وأداء لا يرقى لأمثل المواجهات، وذلك ما يعنى أزمة تطاق، وثالثها: مشكلات سياسية قصيرة المدى يمكن حلها، وهو ما يعنى أزمة قابلة للشفاء، والصحيح كذلك أنه فى أثناء ولاية أوباما ساد المشهد الاجتماعى الأمريكى مناخ من الإحباط والغضب، حيث أعلنت أطراف هذا المشهد أن تدابير صياغة الواقع الراهن وسياساته، أنتجت سلسلة من خيبات الأمل الضاغطة على جودة الحياة، وانطلاقًا من أن المؤسسة السياسية الحاكمة وفقًا لمفهومها الجوهري، تعنى ممارسة المبادرة فى إدارة شئون الوجود الجمعي، تحقيقًا للاستقرار الاجتماعي؛ لذا انتشر فى المجتمع الأمريكى سجال لخطاب سياسى مناهض، اضطلع به تيار منشق، يعارض سياسات إدارة أوباما الداخلية والخارجية، منددًا بمخاطرها، رافضًا توجهات أوباما، رافعًا راية التغيير فاكتسب اهتمامًا لافتًا، وهو التيار الذى يعرف باسم حركة الشاي.
إن رصد قرائن التأثير المباشر لهذه الحركة فى المجتمع الأمريكي، يشير إلى أنها تمثل منعرجًا حاسمًا، بوصفها بلورة لأكبر حركة سياسية محافظة، والأكثر تطرفًا فى الولايات المتحدة، تقف على يمين الحزب الجمهورى المحافظ، وهو ما يعنى أنها تخلخل خريطة وجود الحزبين معًا، الديمقراطى والجمهوري؛ إذ ما انفكت تشكل طفرة باستنفارها مناصريها منذ اندلاع تظاهراتها الضخمة عام 2009، المطالبة بالعودة إلى القيم الأمريكية، حتى استطاعت عام 2010 أن تسجل انتصاراتها فى انتخابات التجديد النصفى للبرلمان، حيث دفعت بممثليها للترشيح باسم الحزب الجمهورى الذى تشاركه قاعدته الشعبية، وتستعد لانتخابات الرئاسة فى نوفمبر عام 2010. ولا شك أن الراصد لا يستطيع التغافل عن المعنى الخاص لتسمية هذه الحركة باسم الشاي؛ إذ هو أمر لا يبرح دلالته، ويدعو إلى الانتباه لعلاقة الخبرة الإدراكية بمعرفة الحقائق الواقعية، التى شيدت مباشرة عليها اسم هذه الحركة، إذ انطلقت من إرث النضال الأمريكى فى انتفاضته الأولى التى أشعلت ثورته من أجل الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية، حيث بدأت بإلقاء الأمريكيين حمولة السفن التجارية من الشاى فى البحر، اعتراضًا على زيادة بريطانيا الضرائب عليهم، وهى دلالة متعلقة بمطالب الأحداث الراهنة آنذاك، كما لا يغيب عن الراصد أيضًا أن حركة الشاي، تصنع السحر فى المجتمع الأمريكي، ولا يقودها ساحر؛ بمعنى أنها ليست حزبًا يقوده زعيم بعينه؛ بل محض تحالف تقوده منظومة فكرية مرجعية استحواذية وحيدة، تنتمى إلى أشد المؤثرين فى صياغة المعتقد الفكرى للحلم الأمريكي، وهى الفيلسوفة والكاتبة آين راند ( 1905 / 1982 )، الروسية الجنسية التى هاجرت إلى الولايات المتحدة عام 1926 وحصلت على الجنسية الأمريكية عام 1931، فقد دعمت آين راند الحكومة المقيدة السلطات التى تتبع رأسمالية عدم التدخل؛ إذ كانت ترى أنه النظام الاجتماعى الوحيد الذى حمى الحقوق الفردية، وقد جسدت فى أعمالها الفكرية والإبداعية نموذج اليمين الأمريكى المتحرر، فى إطار قناعتها بخيرية الرأسمالية، وإيمانها المطلق بأن أمريكا هى المجتمع الأخلاقى الوحيد فى تاريخ البشرية، وضمانة هذا المجتمع تكمن فى ازدهار قيم الفردية المطلقة، والاقتصاد الحر، وقداسة حقوق الملكية الخاصة؛ لذا اختصمت حركة الشاى كل أطروحات أوباما المالية، والاجتماعية، والسياسية ورفضتها، مثل قانون الاستقرار الاقتصادي، وقانون الرعاية الصحية، وفرض الضرائب، وطرحت رهانها متمثلاً فى الدعوة إلى الفردانية المطلقة، وسياسة الحماية ضد المنتجات المستوردة، وإعادة الاعتبار إلى الإنسان الأبيض، ومواجهة سياسة تقليل القيود على الهجرة، والتحفظ على السياسة التصالحية مع العالم الإسلامي، والمطالبة بالتأييد المطلق لإسرائيل. إن المفكر الأمريكى جيمس بيرنستان فى استقرائه لهذه الحركة، أشار إلى أنها تشكل عنصرًا سياسيًا مفاجئًا يجب أن يحظى بالبحث والتحليل العميق للتأثيرات التى ستحملها مستقبلاً فى صنع القرار الأمريكي، وأيضًا فإن الكاتب توماس فرانك قد أطلق عليها: اليمين المنبعث، وذلك فى كتابه «الشفقة يا ملياردير» معللاً بتزامنها مع تزايد المصاعب التى يواجهها المواطن؛ إذ إن قطاعًا عريضًا من الأمريكيين خذلتهم سياسات أوباما. وقد تواترت التساؤلات عن هوية هذه الحركة تحريًا عما إذا كانت حركة حقيقية، أم أنها مناورة سياسية من الأحزاب أو غيرها، وكانت المفاجأة أن المعرفة التى كشفت عنها التقارير الأمريكية، والمنشورة فى الصحف العالمية، بأن شركات ديفيد وتشارلز كوتش، اللذين يعدان أكبر الممولين لحركة الشاي، قد تبين تورطها فى اختراق الحظر الأمريكي، بالتعاون مع إيران عبر واجهات غير أمريكية، وتضج التساؤلات: أهو انزلاق تم ترتيبه بحسابات دقيقة وإحكام، حتى يقام الاتهام، أم ترى أن المال السياسى استطاع بالمخاتلة، اختراق المحاذير؛ بل الحدود الجغرافية للولايات المتحدة، أم هو تورط حقيقى سابق الإضمار من جانب الشركات، استهدافًا إلى مزيد من الأرباح، انطلاقًا من أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، تتبطن بالتواطؤات، وتتوارى بآليات التداخلات المصحوبة بخطابات التسويغ، وتسترصد بمعاييرها المزدوجة، ومقاصدها الإجرائية المستترة والمعلنة، تكريسًا لسلب الحقوق، كما تتصدى بسطوة الإمعان فى ممارسة الضغوط تسيدًا لحساب مصالحها، دون الالتزام بمرجعيات الاستحقاق، وليس بشيء من ذلك كله بغائب عن تناولات مفكريها، ونقادها الأمريكيين وغيرهم، فى انتقاداتهم العادلة ووعيهم المضاد لخروقات السياسة الأمريكية؟ ترى هل فاعلية نتائج الكشف والمعرفة قد تعرقل مسارها؛ إذا تصدى لهذه الفاعلية اعتقاد مخادع بنفيها؟ والصحيح أن المعرفة إنجاز إدراكي، ينقل العقلانية من المستوى الفردى إلى مستوى النسيج المجتمعي، لتغدو نظامًا اجتماعيًا سياسيًا للجميع، وليس لفئة مسيطرة.