د.السيد رشاد برى
……………….
إذا كان العدل هو القيمة الأولى فى الإسلام باعتباره مشتركا إنسانيا عاما، فإن التسامح هو الخلق الأعلى الذى يشكل المعادل الموضوعى لتطبيقات هذا العدل فى حركة الحياة،حتى إن العلماء والأئمة جيلا بعد جيل، أطلقوا على الإسلام “الشريعة السمحاء”، وقدم الكثيرون منهم الدعم الفكرى،والجهد البحثى، لإظهار هذه الحقيقة المضيئة،لكن قليلين انتبهوا إلى خفوت حضورهذه الحقيقة فى الواقع رغم حضورها الساطع بين صفحات الكتب والدراسات،فعملوا على علاج هذا الخلل الخطير تارة بالاجتهاد الفقهى،وأخرى بالتطبيق العملى،وثالثة بالمشروعات الإصلاحية، ومن أبرز هؤلاء الشيخ محمود شلتوت رائد ثقافة التسامح والتقريب بين المذاهب والديانات فى العصرالحديث،تلك الثقافة التى شغلت حيزاً كبيراً من شخصيته وفكره ومؤلفاته،والأهم حيزا أكبر من قراراته ومشروعاته وجهوده، فكانت السمة الأبرز لحياته،حتى أطلق عليه “إمام التقريب “،حيث اعتمد التسامح نهجا،والتقريب منهجا لكى يضئ للأمة طريق البناء والتقدم الحقيقى، ويمنحها على مدار العصورقاسما مشتركا لا يملك أحد أن يمنعه مهما احتشد واقعها بالارتباك والاختلال، خصوصا فى مواجهة معركة وجود يفرضها عليها أعداؤها ،لإدخالها نفق التطرف المظلم،الذى يشل تقدمها، ويحيطها بدائرة جهنمية من الإحباط والفوضى والتفكك.
وللشيخ الجليل جهود كبيرة فى التقريب بين المذاهب؛ بإدخال دراسة جميع المذاهب الإسلامية فى الأزهردون تعصب، بهدف توحيد كلمة المسلمين بعد أن مزَّقتهم العصبيات، والفروق المذهبية، والخلافات الطائفيَّة ، وعمق الاستعمار- ولايزال- شقَّة الخلاف بينهم،ليتمكَّن من تمزيقهم،وتسخيرهم لأغراضه .
من هنا بدأ الإمام بتأسيس”جماعة التقريب” مع مَن دعا إليها من زعماء المسلمين، رافعا شعار:إنَّ دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة،والإسلام والسلام،موضحا أنَّ الأزهر ينزل على حكم “مبدأ التقريب بين المذاهب”، وفى هذا الإطار اشتهرت فتواه باعتبار المذهب الجعفرى مذهباً تعبديّاً للمسلمين إلى جانب المذاهب الأربعة للمسلمين السنة،فسد بابا واسعا للخلاف والصراع.
فى السياق ذاته كان الشيخ شلتوت واحداً من مؤسسى مجلة «رسالة الإسلام»،وعلى صفحاتها تعدّدت اجتهاداته في التقريب بين المذاهب الإسلامية محذرا،من خطرالحروب المذهبية،فإذا لم نقدّم الإسلام باعتباره ” نموذجاً حضارياً ، فإنّ نماذج أخرى يمكن أن تحلّ محلّه.
والشيخ محمود شلتوت،الذى ولد بمنية بنى منصوربمحافظة البحيرة فى مصر 1893، نال شهادة العالمية من الأزهر 1918،وشارك في ثورة 1919،واختير عضواً فى الوفد المصرى بمؤتمر لاهاى للقانون الدولى 1937، نادى بتكوين مكتب علمى للرد على أعداء الإسلام وتنقية كتب الدين ،اختير1946 عضواً بمجمع اللغة العربية،وفى 1958 صدر قرار بتعيينه شيخاً للأزهر،وكان أول من حمل لقب “الإمام الأكبر”،حيث صدر فى عهده قانون إصلاح الأزهر 1961،وأدخل العلوم المدنية الحديثة إليه وأنشأ مجمع البحوث الإسلامية.
حصل على عدد من الجوائز والأوسمة منها كسوة التشريف من الدرجة الأولى، والدكتوراه الفخرية من جامعات: «ميدان» وشيلى وجاكرتا، والكاميرون، وأرفع الأوسمة من المغرب ،وأفغانستان،والسودان، من أبرزمؤلفاته:«الإسلام عقيدة وشريعة» ،وموسوعة «الفتاوى» ،و«من توجيهات الإسلام»،و”فقه القرآن والسنّة”، و”الإسلام والوجود الدولى للمسلمين”،و”القرآن والقتال”، وتنظيم العلاقات الدولية فى الإسلام”،و«المقارنة بين المذاهب». وله أحاديث إذاعية لا تزال تذاع حتى الآن.
لقد ظل الإمام الأكبر محمود شلتوت حتى رحيله فى 1963، فاردا تسامحه شراع تقارب فى وجه عواصف وأعاصير الفرقة والصراع والتشرزم، يتصدى لعنفوانها تارة،ويطفئ نيرانها دائما، ليحمل وردة هذا “التسامح” إلى فضاءت عقولناوأفئدتنا،لعلها تستيقظ،فتوقظنا لنتبنى معها جسدا وروحا “درس التسامح” الذى نحن فى أشد الحاجة إليه الآن، فى زمن الجماعات الظلامية التى حولتنا إلى أمة ظاهرها وباطنها من العذاب ، فهل نعى رسالة الشيخ محمود شلتوت، ونستعيد خلق التسامح بيننا ،قبل أن تقتلنا قسوتنا وفرقتنا، وعندها سنكون مثل الفئران الغبية التى يصطادها الناس منذ مئات السنين بذات المصيدة وقطعة الجبن،لأنها أبدا لاتتعلم الدرس.