كتب – محمد شعبان
يقول فاروق جويدة..
أمام ما شهدته الثقافة العربية من مظاهر التراجع والانهيار كانت اللغة العربية أهم مظاهر هذا التراجع.. ابتداء بما حدث فى محيط الأسرة وانتهاء بخطايا التعليم وانتهاء بلغة الشارع حواراً وغناء وفناً.. لقد تناولت أزمة اللغة العربية فى أكثر من مناسبة وأعترف أن ردود الأفعال من القارئ هى كل ما وصلني.. ولم أجد جهة رسمية على مستوى العالم العربى تشاركنى الإجابة عن هذا السؤال.. كيف ننقذ تاج الثقافة العربية ولغة القرآن الكريم ؟ وعلى من تقع مسئولية انهيارها وتراجعها ؟
إن الذى حرك شجونى وجعلنى أعود للقضية مرة أخرى هو مستوى الحوار الهابط على شاشات التليفزيون.. وهذه اللغة الجديدة علينا وكيف تسربت إلى عشرات القنوات لكى تضعنا أمام حقيقة مؤسفة أن اللغة العربية تعيش أسوء حالاتها.. هناك لغة جديدة لا أعتقد أنها تنسب للغة القرآن الكريم.. إن الألفاظ التى تقال والحوارات والشتائم التى تدور بين نماذج بشرية غريبة وشاذة وهذا القاموس لم نسمع عنه من قبل.. وهذا يعنى أن هذا المستوى الهابط من اللغة قد تسرب من العشوائيات إلى الأسرة إلى الشارع وأخيراً أصبح دروساً للأبناء على الشاشات..
إن الغريب فى القضية أن الحوار الهابط كان منسجماً مع الشخصيات فى الشكل والمظهر.. ولا أدرى من أين هبطت علينا هذه الوجوه ومن أين جاءت هذه اللغة ومن أين جاء أساتذة كل هذا الحوار الهابط.. هناك عصابة تخصصت فى نشر ورواج هذه اللغة والغريب أن الأزمة ليست فى عمل واحد ولكن هذا المستوى الهابط يوجد فى كل الأعمال.. لقد كنا نسمع بعض الألفاظ التى تثير الغثيان هنا أو هناك.. ولكن أن تكون ظاهرة نسمعها ونراها فى كل الأعمال وعلى لسان كل الشخصيات فهذه هى قمة المأساة..
إن ما حدث هذا العام من انهيار كامل فى مستوى اللغة العربية يضعنا أمام هذه الحقائق.. إن مستوى اللغة العربية فى حالة تراجع حتى وصل إلى أحط المستويات.. خاصة أننا لا ننكر أن المسلسلات والبرامج كانت تتحمل مسئولية نشر اللغة العربية، لأنها تذاع على كل شاشات العواصم العربية.. وهذا يعنى نشر لغة الحوار الهابط وإفساد أذواق الشعوب وليس دولة واحدة.. إننا كنا نلقى مسئولية انهيار اللغة العربية على أزمة التعليم فى العالم العربى وهذه حقيقة ولكن هناك أسباب أخري..
إن ما يشاهده أبناؤنا يمثل جريمة فى حق أجيال لم تتعلم لغة عربية سليمة فى مدارسها.. ولكنها تتعلم شيئا مشوها يطاردها كل ليلة على الشاشات فى صورة مسلسلات وإعلانات وبرامج مشبوهة.. إن أزمة اللغة العربية لم تعد مقصورة على دولة دون أخرى ولكنها أصبحت مشاعا وتوزع دمها بين جميع القبائل.. وأصبحت فى حاجة إلى مشروع ضخم تشارك فيه كل العواصم العربية.. بحيث تفرض على المدارس الأجنبية تدريس اللغة العربية وأن تكون مادة نجاح ورسوب..
إن الأزمة الحقيقية الآن فى كل العواصم العربية أن الأطفال لا يعرفون لغتهم ولا يجيدون الحديث بها.. إنهم لا يغنون كلماتها ولا يحفظون قرآنها ولا يتحاورون بها.. إن الأجيال الجديدة غريبة تماما عن لغتها وفى العواصم العربية هناك من يتحدث الإنجليزية أو الفرنسية وقليلا ما تسمع اللغة العربية.. هناك جانب أخطر وهو غياب القرآن الكريم عن مناهجنا الدراسية..
إن اللغة العربية هى لغة القرآن الكريم وكانت مدارسنا فى زمان مضى تضع آيات من القرآن نحفظها ونتعلم منها اللغة والنطق السليم.. ولكن تراجع الإلمام بكل هذه الجوانب وأصبح من النادر أن تجد مدرسة تحفظ القرآن للطلاب.. إن أول خطوة نحو إنقاذ اللغة العربية أن يعود القرآن الكريم إلى مناهج التعليم.. وأن يفرض على التعليم الأجنبى تدريس اللغة العربية..
إن القضية كلها لابد أن تأخذ مكانها على مكاتب المسئولين فى الحكومات العربية، لأن فيها أطرافا كثيرة.. وهناك مواقف متعارضة وهناك أيضا حسابات سياسية وربما دينية ..ولكن لا يعقل أن تضحى أمة بلغة يجتمع عليها مئات الملايين من البشر.. كان العالم يحسد العرب على لغتهم ووطنهم ودينهم والآن ساءت كل الأحوال ثقافة ولغة وعقيدة.. ولابد أن نعود إلى جذورنا ونعيد للغة العربية مكانتها لغة وقرآناً ووعياً وتاريخاً..
لقد عدت للكتابة حول محنة اللغة العربية خوفا على أجيال لن تغفر لنا خطيئة أننا فرطنا فى لغة القرآن.. وتركناها مشاعا بين خطايا السياسة وانهيار الثقافة وضياع الهوية.. إن كل بيت فى العالم العربى يدرك حجم المأساة، لأن لديه أبناء لا يتحدثون لغتهم وهو لا يملك شيئا أمامهم فقد درسوا فى مدارس للغات لم تعلمهم حرفا عربيا وكانت النتيجة هذه الملايين الذين يحملون جوازات سفر عربية ولا يتكلمون لغتهم قد لا يصدق البعض أن اللغة العربية تدرس فى مناهج التعليم فى إسرائيل.. وأن أطفالهم يحفظون قصائد محمود درويش وسميح القاسم..وأن شارعا كبيرا يحمل اسم أم كلثوم فى قلب تل أبيب كان حديث العالم ..بينما تنتشر فى كل العواصم العربية أسماء المحلات والمولات والمستشفيات والمدارس والجامعات باللغات الأجنبية..
إن القضية لم تعد فقط مناهج دراسية باللغة العربية ولكنها أسلوب حياة لشعوب تنكرت لأهم ثوابت حياتها وثقافتها ودينها.. وأصبحنا الآن نصرخ فى البرية أمام لغة تنهار وثقافة تتراجع.. لا أتصور حلا سحريا لأزمة اللغة العربية، لأن الحل لن يكون فرديا ولكنه يحتاج إلى وقفة رسمية تتوحد فيها إرادة الحكومات وإرادة شعبية ندرك من خلالها حجم المأساة..
فى يوم من الأيام راهنت على جامعة الدول العربية وأمينها العام الصديق السفير أحمد أبو الغيط وإن كانت السياسة قد خذلتها ربما تنصفها الثقافة.. خاصة أن اللغة العربية ليست محنة اليوم أو غدا ولكنها عار.. سوف يحاسبنا التاريخ يوما ويقول هذه أمة فرطت فى أغلى ما كان عندها حين فرطت فى لغة القرآن وكانت تعلم أنها تفرط فى دينها وثقافتها ومكانتها بين الشعوب..
إن إهمال اللغة العربية جريمة تاريخية لن تسقط بالتقادم تشارك فيها الشعوب والحكام والمسئولون كباراً وصغاراً وربما جاء يوم لا تجد فيه كلمة عربية فى الشارع أو بيت فى أى عاصمة عربية وإذا استمر الحال على ذلك فلن يكون غريباً أن تظهر أجيال لا تعرف شيئا عن كتاب يسمى القرآن أو دين يسمى الإسلام أو لغة كانت تسمى اللغة العربية..
سوف أظل أصرخ طالبا إنقاذ لغتنا الجميلة، لأنها تستحق أن ندافع عنها ونوفر لها الحماية.. وهنا أتوقف عند دور أزهرنا الشريف وقد كان يوما حصنا من حصونها علما ودفاعا ودورا ومسئولية.. تبقى عندى كلمة أخيرة نداء لكل أسرة أن مسئولية البيت أهم من المدرسة والمسلسلات والغناء الهابط ولغة الشارع .. علموا أبناءكم لغتهم فى البيوت..
ويبقى الشعر
مُتْ صَامِداً..
واتْرُكْ عُيُونَ القُدسِ تبْكِى
فَوقَ قبرِكَ ألفَ عَامْ
قد يَسقطُ الزمَنُ الردِيُء..
ويطلعُ الفرسانُ من هذا الحطَامْ
قدْ ينتهى صخبُ المزاد
وتكشِفُ الأيامُ أقنعةَ السلامْ
إنْ نامتِ الدنيَا
وضاعَ الحقُّ فى هذا الركامْ
فلديْك شعبُ لن يضلّ..ولنْ يَنَامْْ
مُتْ صامِداً
وَاتْرُكْ نِدَاءَ الصُّبْحِ يَسْرِى هَادرِاً
وسَط الجْماجمِ والعظامْ
اترك لهم عبثَ الموائدِ ..
وَالجراَئِدِ واَلمشَاهِدِ واَلْكَلَامْ
أتْرُكْ لَهُمْ شَبقَ الفسَادِ
ونشوةَ الكُهانِ بِالَمالِ الحرامْ
أطلقْ خُيولكَ منْ قيُودِ الأسْرِ
مِن صَمتِ المآِذنِ
والكنائِسِ.. والِخيَامْ
إِن الشُّعوبَ وإِنْ تمادَى الظلمُ ..
سوف تدقُّ أعناقَ السَّمَاسِرَةَ العِظامْ
إِنَّ الشًّعُوبَ وإِنْ تَوَارَتْ
فيِ زمانِ القهرِ
سوفَ تُطلُّ من عليائِهَا
ويعودُ فى يَدهَا الزَّمامْ
فارفعْ جبينَكَ نحوَ ضوءِ الشمْسِ
إنَّ الصُّبحَ آتٍ
لنْ يَطُول بِنَا الظَّلاَمْْ
<<<
مُتْ صامِداً
مُتْ فوقَ هذِى الأرضِ..لاَ ترحَلْ
وإِنْ صلَبوكَ فيها كالمسِيحْ
فَغَداً سَيَنْبتُ ألفُ صُبْحٍ
فِى ثَرى الْوَطًنِ الذّبِيحْ
وَغَداً يُطلُ الفجرُ نُوراً
من مآذننا يَصيحْ
وغداً يكونُ الثأرُ..
مِن كُهَّانِ هَذَا الْعَصْرِ
والزَّمنِ القبيحْ
فأنْثُرْ رُفَاَتكَ فَوْقَ هَذِى الأرْضِ
تَنْفُضْ حُزْنَها
ويُطِلَّ من أشْلائِهَا الْحُلمُ الجَرِيحْ
أطْلِقْ نَشِيدَكَ فى الدُّرُوبِ لَعَلَّهُ
يوماً يعيدُ النبضَ..
للْجَسَدِ الْكَسِيحْ
<<<
مُتْ صامِداً
مَاذَا تُريدُ الآنَ مِنْ هَذِى الحَياهْ؟
مَجْدٌ وَسُلطانِ وتيجانٌ وجاهْ؟
مَاَذا تَقَولُ..
وَأنْت تكْبرُ كُلَّما لاحَتْ
أمَاَم الْقُدسِ أطْوَاقُ النَّجَاهْ؟
مَاَذا تَقَولُ..
وأنتَ ترفعُ أمة سَقَطتْ
وضَاَعَتْ تَحْتَ أقْدَامِ الطُّغاهْ ؟
مَاَذا تَقَولُ ..
وأنت تبقَى فى ضميرِ النَّاسِ حَيّا
كلمَا نادى المؤذنُ للصَّلْاة؟
مَاَذا تَقَولُ
وَأنْتَ أقَوى من زَمَانكَ ؟..
َأنْتَ أكْبَرُ مِن جَرَاحكَ..
أنْتَ مُعْجزةُ الِإلهْ
أيُّ الُوجُوهِ سَيَذكرُ التَّاريخُ..
جلادٌ حقيرٌ
أمْ شهيد عطرَ الدنيَا ثراهْ.؟
فرقٌ كبيرٌ
بينَ من سلبَ الحياةَ من الشُعوبِ
ومَنْ أعَادَ لها الحَياهْ
مُتْ صامِداً
والعنْ زمانَ العجزِ.. والمجدِ المدُنسِ..
تحت أقدامِ الغزاهْ
فلكلَّ طاغيةٍ مدًي
ولكل ظلمٍ منتهاه
<<<
مُتْ صامِداً
حتّى ولو هدمُوا بُيوتَ اللهِ
واغتصبٌوا المآذنْ
حتى ولو حرقُوا الأجنةَ
فى البطونِ..
وعربدوا وسطَ المدائنْ
حتى ولو صلبُوكَ حيا..لا تُهادنْ
هل يستوى البطلُ الشهيدُ
أمام مأجورٍ وخائنْ؟
كن قبلةً فوق الخليل
وكن صلاة فى المساجدْ
زيتونةً خضراءَ تؤنسُ
وحشةَ الأطفالِ..
حين يقودهمْ للموتِ حاقدْ
كن نخلةً
يساقط الأمل الوليدُ على رُباهَا
كلما صاحتْ على القبر الشواهد
<<<
مُت صامداً
لا شيء يغنى النَّاس عن أوطانِهم
حتى ولو ملكوا قُصورَ الأرضِ
جاهاً.. أو سكنْ
كُلُّ الَّذى نَبْغِيه مِنْ أوْطاننَا
أنْ نَسْتَرِيحَ عَلَى ثَراَهَا
حِينَ يُؤْوِينَا الْكَفَنْ
بَعْضُ الخُيولِ يمُوتُ حُزْنًا
إنْ تَغَّربَ لحظةً..
يَغْدُو سَجِينَ المحْبسَيْنِ
فلا أمَانََ..وَلا وَطَنْ
أنت الشَّهِيدُ فِداً لأرضكَ ..لا تَمُتْ
من غير ثأرٍ..أو قصاصٍ..أو ثمنْ
أغمضْ عيونَكَ فوقَ عينِ القدسِ
واصرخْ دائماً
إنْ كَلَّ فيهَا العزمُ يوماً أو وهَنْ
لا تأتمِنْ
من خادَعُوكَ وشردُوكَ وضللُوكَ
وضيعُوا الأوطانَ فى سوقِ المحنْ.
كُنْ صيحةً للحقّ
فى الَّزمن المُلَوَّثِ بِالدَّمَامةِ والعفنْ
لا تَخْشَ كُهَّانَ الزَّمانِ الوَغْدِ
إنَّ عروشهُمْ صَارَتْ قبوراً
فأترُكِ التاريخَ يحكمُ.. والزمَنْ