كتب / رضا اللبان
بعد نجاحه فى القضاء على حملة فريزر بدأ الحقد والتنافس بين عمر مكرم وبعض العلماء
لم يخف أمر هذا التنافس على محمد علي، بل لابد أن يكون قد ابتهج له في خاصة نفسه ابتهاجا عظيما، وعزم على استغلاله لينفرد بالحكم، ويتخلص من تلك الرقابة الشعبية، وقد قويت فيه نعرة الانفراد بالحكم بعد اخفاق الحملة الانجليزية، مما جعله ينزع الى الاستئثار بالحكومة والقضاء على كل سلطة تراقبه أو تعارضه، وقد بدأ بالتخلص من الزعامة الشعبية لأن هذه الزعامة مرتكزة على أساس راسخ من التفاف الشعب حولها وصحة المبادئ التي تعمل لها.
لم يكن من بين زعماء الشعب حينذاك من شيوخ الأزهر أو غيره من كان يحسب له حساب كبير مثل السيد \ عمر مكرم، فانه الرجل الذي كان يتمثل فيه دائما تاريخ النضال ضد المستعمر، فلم تلن قناته للمنافع والمغريات، ولم تزعزعه الكوارث والتهديدات، وقد ظل يمثل النزاهة والاستقامة حتى آخر من حياته، وأيده في مسلكه بعض الشيوخ، ولكن أغلبيتهم قد انصرفت الى أسباب المنافع، والاستكثار من الأموال والضياع والدور والقصور، وأخذوا يقلدون البكوات المماليك في البذخ والرفاهية، فأذلتهم الدنيا، وضعفت نفوسهم أمام سلطة الحاكم ونفوذه. وكان محمد علي عند فرضه الضرائب الجديدة على القرى والالتزامات قد راعى خاطر الشيوخ ليضمهم اليه، فأعفى أملاكهم وضياعهم وما دخل في التزامهم من دفع ضريبة الفائض وكذلك شمل بهذا الاعفاء املاك من ينتمون اليهم، فاغتر الشيوخ بهذا التمييز في المعاملة، وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين، وتركوا الدنيا تفسد من طباعهم .
قال الجبرتي في هذا الصدد:
“وافتتنوا بالدنيا وهجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم الا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية، وصارت بيت احدهم مثل بيت احد الأمراء المماليك واتخذوا الخدم والمقدمين والاعوان واجروا الحبس والتعزيز والضرب وصار دينهم واجتماعهم ذكر الامور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائض والمضاف والرماية والمرافعات والمراسلات … زيادة عما هو بينهم من التنافر والتحاسد والتحاقد على الرياسة والتفاقهم والتكالب على سفاسف الامور وحظوظ الأنفس على الأشياء الواهية”.
غنى عن البيان ان هذه الحالة النفسية التي وصفها الجبرتي قد أدت الى اضعاف مكانة الشيوخ وازالة هيبتهم من القلوب، ومهدت السبيل لمحمد علي ليتسلم زمامهم، لانه يكفي ان يلوح لهم بمنفعة جديدة او يتهددهم بحرمانهم من منفعة قائمة ليضمن ولاءهم وموافقتهم اياه في كل ما يرغب عمله، وكانت الحكومة في غضون ذلك تفرض ما تشاء من الاتاوات والضرائب، فطورا تقرر الاستيلاء على نصيب من ايراد الملتزمين وتارة تقرر قروضا اجبارية تكره عليها الملاك والتجار، وكانت فيما تقرره تعفي الشيوخ من الاتاوات، ولكنها قررت في أواخر أكتوبر سنة 1807 أبطال هذا الامتياز وتعميم ما تفرضه من الضرائب العقارية الجديدة على أطيانهم”.
كانت الحكومة كلما احتاجت الى المال تفرض ضرائب واتاوات جديدة على الأطيان والمتاجر وغيرها، فساءت الحالة الاقتصادية ، ووقع الضنك واستد الضيق بالأهالي، وكثرت هجرتهم من القرى، وزاد الحالة حرجا نقص النيل نقصا فاحشا في فيضان أغسطس سنة 1808، فارتفعت الأسعار، واشتد الغلاء، وقلت الغلال في الأسواق ، فلجأ الأهالي كعادتهم الى العلماء، وهؤلاء فتحدثوا مع محمد علي في كثر الضرائب وطلبوا ليه رفع تلك المظالم، فغضب عليهم الباشا، ونسب اليهم ظلم الأهالي لأنه حينما اعفى اطيانهم من الضرائب الجديدة كانوا هم مع ذلك يقتضونها من الفلاحين، وتهددهم بمراجعة ما نالهم من هذا الباب، فقبلوا المراجعة ، وكان هذا الجدل نذيرا باشتداد الخلاف بين محمد علي باشا والعلماء، واتفقوا على اقامة صلاة عامة للاستسقاء، وهي الصلاة التي تقام ما شح النيل للدعاء الى الله ان يرفع الكرب ويجري الماء.
قال الجبرتي في هذا الصدد: “فلما كان يوم سبت 27 جمادى الثانية سنة 1223 وخامس عشر مسرى القبطي نقص النيل نحو خمس أصابع وانكشف الحجر الراقد الذي عند فم الخليج تحت الحجر القائم، فضج الناس ورفعوا الغلال والعرصات والسواحل، وانزعجت الخلائق بسبب شح النيل في العام الماضي وهيفان الزرع وتنوع المظالم وخراب الريف وجلاء أهله واجتمع في ذلك اليوم المشايخ عند الباشا فقال لهم اعملوا استسقاء وأمروا الفقراء والضعفاء والأطفال بالخروج الى الصحراء ودعوا الله، فقال له الشيخ الشرقاوي ينبغي أن ترفقوا بالناس وترفعوا الظلم، فقال أنا لست الظالم وحدي، وأنتم أظلم مني، فاني رفعت عن حصتكم الفرض والمغارم اكراما لكم وأنتم تأخذونها من الفلاحين، وعندي دفتر محرر فيه ما تحت أيديكم من الحصص يبلغ ألفي كيس، ولابد أني أفحص ذلك، وكل ما وجدته يأخذ الفرضة المرفوعة عن فلاحيه أرفع الحصة عنه، فقالوا له لك ذلك، ثم اتفقوا على الخروج والسقيا في صحبها بجامع عمرو بن العاص لكونه محل الصحابة والسلف الصالح يصلون به صلاة الاستسقاء ويدعون الله ويستغفرونه ويتضرعون اليه في زيادة النيل، وبالجملة ركب السيد عمر والمشايخ واهل الازهر وغيرهم والاطفال واجتمع عالم كثير وذهبوا الى الجامع المذكور بمصر القديمة، فلما كان في صحبها وتكامل الجمع صعد الشيج جاد المولى على المنبر وخطب به بعد أن صلى صلاة الاستسقاء، ودعا الله وأمن الناس على دعائه وحول رداءه، ورجع الناس بعد صلاة الظهر وبات السيد عمر هناك، وفي تلك الليلة رجع الماء الى محل الزيادة الأولى واستتر الحجر الراقد بالماء،وفي يوم الاثنين خرجوا أيضا، وأشار بعض الناس باحضار النصارى أيضا، فحضروا وحضر المعلم غالي ومن يصحبه من الكتبة الأقابط، وجلسوا في ناحية من المسجد يشربون الدخان، وانفض الجمع أيضا، وفي تلك الليلة التي هي ليلة الثلاثاء، زاد الماء ونودي بالوفاء وفرح الناس، وطفق النصارى يقولون ان الزيادة لم يتحصل الا بخروجنا، فلما كانت ليلة الأربعاء طاف المنادون بالرايات الحمر ونادوا بالوفاء، وعمل الشنك والوقدة تلك الليلة على العادة، وفي صبحها حضر الباشا والقاضي واجتمع الناس وكسروا السد وجرى الماء في الخليج جريانا ضعيفا”.
وبالرغم من جريان النيل فأن الضائقة الاقتصادية لم تخف وطأتها، وزادت الحكومة في فرض الضرائب، فازداد البؤس واشتد الضيق بالناس.
ولما كانت سنة 1809 قرر محمد علي باشا فرض ضريبة المال الميري على الاراضي الموقوفة، وهي المعروفة بالرزق الأحباسية اي المرصدة على المساجد والسبل والخيرات، وكذلك على أطيان الأوسية التي كانت ملكا خاصا للمتلزمين، وهذه الأطيان كانت كلها معفاة من الضرائب، وقرر كذلك فحص أطيان الرزق والأوقاف وطلب حججها ممن يتولون النظر عليها وأمر حكام الأقاليم (الكشاف) بالاستيلاء على تلك الأطيان اذا لم يقدم أصحابها الى الديوان حجج انشاء الوقف، ومعنى ذلك تمهيد السبيل لمصادرة معظم الأطيان الموقوفة، لان الكثير منها قد تقادم العهد على وقفه بحيث اصبحت حججه لا تنطبق عليه لتغير المعالم أو للنزاع في الاستحقاق، وتخويل حكام الأقاليم أمر فحصها معناه اطلاق يدهم في الغاء ما شاءوا من الاوقاف.
وقررت الحكومة أيضا الزام جميع المتلزمين بأن يؤدوا للحكومة نصف الفائض لهم من الالتزام، أي نصف الصافي من ايرادهم من الاطيان الداخلة في التزامهم، ومعنى ذلك مقاسمة المتلزمين في معايشهم.
كانت هذه المحدثات سببا في تبرم جمهور الملاك ونظار الاوقاف والمستحقين والمتلزمين، وهم طبقة كبيرة من السكان، ومنهم المحتاجون الذين لا يرتزقون الا من غلة الاوقاف الموقوفة عليهم من اسلافهم، أو من ايراد الاطيان الداخلة في التزامهم، فلا جرم في ان تثير هذه المغارم في نفوسهم عاصفة من الاستياء والسخط وان يجأروا بالشكوى الى الشيوخ الذين هم ملجأ المظلومين في ذلك العصر.
اجتمع السيد \ عمر مكرم والمشايخ وقرروا كتابة عريضة للباشا بمطالب الناس وعدم الصعود له لقائه بالقلعة، وتعاهدوا على ذلك، فأرسل محمد على أحد رجاله إليهم، ويروى الجبرتى ما حدث فيقول:
” حضر ديوان أفندى وقال إن الباشا يسلم عليكم، ويسأل عن مطلوباتكم، فعرفوه بما سطروه إجمالا، وبينوه له تفصيلا، فقال ينبغى ذهابكم إليه، وتخاطبونه بما تريدون، وهو لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم، وإنما القصد أن تلاطفوه فى الخطاب لأنه شاب مغرور جاهل وظالم غشوم ولا تقبل نفسه التحكم، وربما حمله غروره على حصول ضرر بكم وعدم إنفاذ الغرض، فقالوا بلسان واحد لا نذهب إليه أبدا ما دام يفعل هذه الفعال، فإن رجع عنها وامتنع عن إحداث البدع والمظالم عن خلق الله رجعنا إليه وترددنا عليه كما كنا فى السابق، فإننا بايعناه على العدل لا على الظلم والجور !
فقال لهم ديوان افندي وانا قصدي ان تخاطبوه مشافهمة ويحصل انفاذ الغرض، فقالوا لا تنجتمع عيه ابدا ولا نثير فتنة، بل نلزم بيوتنا، ونقتصر على حالنا ونصبر على تقدير الله بنا وبغيرنا، واخذ ديوان افندي (العرضحال) ووعدهم برد الجواب”.
فى رواية قنصل فرنسا العام حينذاك المسيو ” فيلكس مانجان ” فقد ذكر ان السيد عمر مكرم لما حضر اليه سكرتير الباشا وعبد الله بكتاش ( ترجمانه) يوم 12 يونيه سنة 1809، وكان العلماء مجتمعين عنده، طلبا اليه ان يذهب لمقابلة الباشا، فرفض الذهاب، واقسم ألا يرى محمد علي باشا الا اذا عدل عن مشروعه في فرض الضرائب الجديدة، وانتقد سياسته انتقادا شديدا
قائلا :
“واذا اصر الباشا على مظالمه فاننا نكتب الى الباب العالي، ونثير عليه الشعب، وانزله عن كرسيه كما اجلسته عليه”.
فى خلال ذلك أن حرر محمد علي باشا بيانا برسم الحكومة التركية، يذكر فيه ما أنفقه في مصر من الخارج، وقدره نحو أربعة آلاف كيس وأنها صرفت في مهمات تختص بشئون البلاد، فمنها ما صرف في سد ترعة الفرعونية، وما صرف في الحملات العسكرية لمحاربة المماليك، وما أنفقه على عمارة القلعة وترميم المجراة وحفر الترع، وأوضح في بيانه أن الميري قد نقص بسبب الشراقي، وأرسل البيان إلى السيد عمر مكرم لإقراره والتوقيع عليه، فامتنع وأظهر الشك في محتوياته، وقال للرسول الذي حمله إليه: “أما ما صرفه على سد ترعة الفرعونية فإن الذي جمعه وجباه من البلاد يزيد على ما صرفه أضعافا كثيرة، وأما غير ذلك فكله كذب لا أصل له، وإن وجد من يحاسبه على ما أخذه من القطر المصري من الفرض والمظالم لما وسعته الدفتار”.
فلما عاد ( العرضحال ) إلى محمد علي اشتد حنقه علي السيد عمر مكرم ، وطلبه من جديد لمقابلته، فأصر الامتناع، فلما كثر التراسل بينهما في هذا الشأن قال السيد عمر: “أن كان ولابد فاجتماع به في بيت السادات، وأما طلوعي إليه فلا يكون”، فلما بلغ هذا الجواب مسامع محمد علي باشا ازداد حنقه، وكبر عليه أن يشترط السيد عمر مكرم أن تكون المقابلة بينهما في دار غير مقر حكمه، وقال :
“هل بلغ له أن يزدريني ويأمرني بالنزول من محمل حكمي إلى بيوت الناس”، وصمم على البطش به.
في ذلك يقول الجبرتي: “الى أن بدت الوحشة بين الباشا والسيد عمر مكرم فتولى كبير السعي عليه سرا هو وباقي الجماعة حسدا وطمعا ليخلص لهم الامر دونه حتى أوقعوا به” .