بقلم/ كارم يحيى
كان في مصر صحافة فكاهية ساخرة اختفت مع الخمسينيات وتأميم الصحافة لحساب السلطة والمسمى من باب الدلع المر ” تنظيم الصحافة ” عام 1961. ومن يعود الى كتب التاريخ والأرشيفات يكتشف أن “يعقوب صنوع” أحد آباء المسرح العربي الحديث في القاهرة والأسكندرية والملقب بـ “موليير مصر” تعود إليه ما يعتقد بأول صحيفة مصرية ساخرة “أبو نظارة” في العقد السابع من القرن التاسع عشر. ويبدو أن الصحف الساخرة الناقدة انتعشت على موجتين اثنتين مع تحدي أعلى رأس في السلطة والتندر به وبرجاله . موجة حول الثورة العرابية 1879 ـ 1882، ومن أبرزها صحف ” التنكيت والتبكيت ” لعبد الله النديم. والثانية مع ثورة 1919 وفي اعقابها وصولا إلى بدايات الخمسينيات من القرن العشرين ، ولعل اشهر صحفها هنا “الكشكول ” و”البعكوكة ” .
وللأسف لم يتح لجيلي ـ وقد جاوزت الستين بعام واحد ـ أن يعرف ويستمتع بهذا اللون المميز من الصحافة المصرية الشعبية . وكل ما أتذكر من حظي شخصيا من هذه الصحف هو أنني ـ هذا الصبي الذي كنته في اعقاب هزيمة 1967 ـ اشتريت عددين أو ثلاثة أعداد من “بعكوكة ” الراحل ” عبد الله أحمد عبد الله ” الشهير بـ “ميكي ماوس”. وربما جرى السماح بإصدار بضع اعداد قبل ان تعود لتوقفها الذي توقت تماما مع عام التأميم لحساب السلطة 1961. و ما يعلق بالذهن إلى اليوم هذا الكاريكاتير الذي وقد تصدر صفحتها الأولى، ويظهر رئيسة حكومة العدو الصهيوني “جولدا مائير” في حمالة صدر لنهد واحد إلى جانب وزير حربها الأعور بعصابة عينه السوداء “موشى ديان”.
ولا أعرف طوال مسيرة جيلي المهنية التي تمتد من نهاية السبعينيات صحيفة أو مجلة فكاهية ساخرة تثير الانتباه تصدر في مصر إلى اليوم . وحتى مجلة كـ ” كاريكاتير ” التي صدرت في أوائل التسعينيات لا أظنها تضمنت كتابات ساخرة ناقدة بجرأة للسلطة والحاكم . وبالفعل قليل هم الكتاب الساخرون الذين أناروا كآبة سنوات الاستبداد المديدة في بلادنا ،ومن خلال صفحات محدودة بهذه الجريدة أو المجلة،و كـ”التماعات” نادرة. ولذا فإن ظهور الزميل الأستاذ محمد أبو لواية في تاريخ نقابة الصحفيين المصريين منذ نحو ربع القرن كان بمثابة اكتشاف لا يرضي البعض لكنه يبهج الكثيرون من أبناء المهنة. فقد كان بمثابة مجلة ساخرة بدون مطبعة ولا دورية صدور أو موزعين . على ساقيه يجوب فضاء نقابتنا بمقالاته أو بياناته أو منشوراته الساخرة المرقمة الممهورة باسمه. يوزعها أو يعلقها على الجدران. فيضحكنا على أحوال المهنة والنقابة والنقابيين .يتناولهم بقلمه الساخر الرشيق .وفي الأغلب يوجع ولا يجرح .ولو كنا في زمان غير الزمان لكان أبو لواية يرأس تحرير جريدة ساخرة شعبية يتخاطفها القراء، أو على الأقل يحتل مكانه ويشغل مكانته كاتبا ساخرا من نجوم صحافتنا .
تعاقب على نقابتنا العديد من النقباء وأعضاء المجالس من فطاحل المهنة وشيوخها ،وتناول العديد منهم أبو لوايه بقلمه الساخر الفكة الناقد الرشيق البليغ. وطالما أضحكنا على أفعال سلبية وأخطاء.بل وأضحكنا عليهم أنفسهم حين يتحول الفعل والسلوك السلبي إلى وصف مبتكر للشخص ذاته يختصره ويكثفه في كلمة واحدة أو كلمتين . وكم من مرة ضحك العديد معنا على أنفسهم في مرآة زميلنا، أبو لواية بالغ الحياء والمهذب إلى اقصى حد عندما تلتقيه. وكأنه صعيدي ريفي “خام” حمله القطار لأول مرة إلى القاهرة.وربما اختلفت شخصيا أو غيري من الزملاء مع شطط من قلمه هنا أو هناك . فليس من السهل على تربيتنا المحافظة وغير الديمقراطية بدورها أن تتقبل تجاوز كتاباته النقابية النقدية الساخرة “الأفعال والسلوكيات والأداء” إلى “ذوات الأشخاص”. لكني وغيري ظللنا وسنظل نأخذ ما يكتب على سبيل النقد المباح المستحب خفيف الظل جالب البهجة. وكم أوقفت هذه السخرية اللاذعة تطور مشروعات “طغاة صغار” في نقابتنا .وفي مهدها قبل أن تجورعلى الجمعية العمومية و مقدراتها.
وأظنها لطخة سوداء واحدة وحيدة علقت بتاريخ نقابتنا ونقابيينا في استقبالهم لهذا النقد الساخر أو “المصل الواقي” الذي نخاله واحدا من ضمانات تغول النقيب و المجلس على جمعيتنا العمومية ومن الانجرار إلى ممارسات فاسدة ومتسلطة. وكان هذا في صيف 2001 حين دخل زميلنا أبو لواية إلى سجن مزرعة طرة محبوسا في حكم بشهر واحد جراء قضية نشر رفعها ضده وضد سخريته اللاذعة نقيب الصحفيين الراحل الأستاذ إبراهيم نافع .وكان حينها مدججا بمناصب رئيس مجلس إدارة وتحرير “الأهرام” واتحاد الصحفيين العرب وملتحفا بالسلطة ومعززا برفاقه رجالها.وقد أبلغني أبو لوية مؤخرا أن السكرتير العام حينها الزميل والصديق العزيز الأستاذ يحيى قلاش كان مع نافع في الدعوى ذاتها. وقد استفسرت منه ، فقال :”أن التقدم ببلاغ إلى النيابة ضد أبو لواية جاء بقرار من مجلس النقابة ، وبعدما تعمد واصر أن يسبني سبا صريحا في ذمتي المالية ويتحداني في إبرائها أمام النيابة ” .وأكد أنه ذهب ونافع الى النائب العام ( عبد المجيد محمود وقتها ) لتجنب تنفيذ حكم حبس على زميل صحفي ،وأن محمود رفض طلب الافراج عنه من السجن بدعوى أنه مصمم على تنفيذ الحكم “. وشدد قلاش قبل انهي استفساري على أنه كان في مواجهة سب وقذف وتحدي ابراء ذمته المالية .
وعلى أي حال ، ما يعلق بالذاكرة منذ هذه الأيام أن هذه اللطخة ( أن يحبس زميلا زميله في قضية نشر) لم تكن محل استحسان أو قبول كبير بين الرأي العام للجماعة الصحفية. كما أشيع ـ والعلم عند الله ـ أن رافعي الدعوى رغبا في التنازل عن الحكم ووقف الاستمرار في تنفيذه.لكننا لم نعرف ترجمة لهذه الرغبة.وعلى ما أتذكر كان موظفي نافع المعززون بسلطاته الإدارية ” الغليظة” المتناقضة تماما مع صفته النقابية يدورون لجمع التوقيعات على مذكرة تدين أبو لواية بين مكاتب الصحفيين بمؤسسة الأهرام وتحث على احالته للتحقيق النقابي وإنزال العقوبات به.وامتدت ايديهم بها نحوي فرفضت، واستهجنت هذا الأسلوب.وهذا ببساطة لأن عقلا وضميرا صحفيا حرا لا يقبل أن يعين يد سلطة أيا كانت ضد زميل.وناهيك إذا ما كانت هذه السلطة رئيسا لك في العمل، قد يملك ضرا أو نفعا .
لقد كان يعقوب صنوع صاحب ” ابو نظارة ” يلقب بـ ” سيد الساخرين “.واليوم أكتب هذا المقال وأنا حزين ومندهش .أكتبه دفاعا عمن اعتقد بأنه “سيد الساخرين” في فضاء نقابتنا على مدى ربع القرن الأخير. وهذا لأنني طالما بحثت في تاريخ هذه النقابة وهذه المهنة، والآن اطالع صور قرار متداول على شبكة الإنترنت منسوب لمجلس النقابة بقيادة رئيس هيئة الاستعلامات ـ ويا للسابقة المؤسفة التي حلت على موقع النقيب ـ باحالة زميلنا أبو لواية إلى التحقيق بزعم تمزيق أوراق على لوحة الإعلانات بالنقابة.والحقيقة هذا كلام لا يصدقه عاقل عن صحفي، وتحديدا عن الزميل أبو لوايه غير مجهول التاريخ . وأظن أن الأمر يتعلق بعودة أوراق زميلنا الساخرة الناقدة بعد سنوات من الغياب.فقد اضحكنا على الولادة العسيرة القيصرية التي استغرقت 100 يوما بالتمام والكمال لتشكيل هيئة مكتب المجلس و اللجان، بالمخالفة للمادة 71 لقانون نقابة الصحفيين ولائحته التنفيذية.وقد نصتا على الانتهاء من هذا الإجراء في غضون ثلاثة أيام فقط من انتخاب الجمعية العمومية للمجلس الجديد .
أقول ( أظن) تسامحا مع نقيب ومجلس بدأ دورته بجرم الانتهاك والاعتداء المبكر على القانون.وهذا لأن ماجرى ويجرى من التساهل في حقوق الزملاء وواجبات مواقع النقيب ومجلس النقابة إزاءهم .و بما في ذلك التقاعس عن زيارة معتقلي الرأي والحريات في السجون، والتفريط في حضور التحقيقات أمام النيابة معهم، والصمت المطبق عن قول كلمة حق واحدة في بيان للمجلس عما ينالهم من عدوان . وأقول ( أظن ) متسامحا أيضا لأن مجلسا بهذا الحال وكأنه اختار لنفسه شعار ” أسد علي جمعيته العمومية.. وفي حقوقها وحرياتها نعامة ” أخذ يكشر عن انيابه لإرهاب الزملاء أعضاء الجمعية. وملأ فضاء مبنى النقابة بألوان شتى من رجال الأمن، ورفع الكراسي والانتريهات، ووضع السلالم و الهياكل المعدنية لمنع ولو التواجد في مدخل النقابة أو طابق الاستقبال الأرضي .وكأن سجاني زملائنا ومنتهكي حرية الصحافة وقاصفي أقلامنا أوعزوا إليه بإعلان “حظر تجول داخلي ” على الصحفيين و”تطفيشهم” من نقابتهم . وهذا فيما اختار المجلس برئيس هيئة الاستعلامات ـ و الموكل اليها في النظم الدكتاتورية تلميع صور السلطة والسلطان والتغطية على انتهاك حرية الصحافة وسلامة الصحفيين وتقييد تدفق المعلومات وحجب الحقائق ـ الغياب شبه التام وصمت القبور ، إلا فيما يتعلق أحيانا بصور “هيبة” أعضائه، والعديد منهم رؤساء تحرير معينين لذات أغراض ” الاستعلامات “.
قلت (أظن .. أظن ) ، وبعض الظن إثم .أو هكذا اتمنى . اقولها ولدي بين المجلس اصدقاء زملاء اعاتبهم انهم ” لم يشقوا عصا الطاعة على ” الاستعلامات ” .لكن لا استطيع أن افقد الأمل فيهم و في نقابيتهم واستقلاليتهم تماما. .
وتبقى كلمة أوجهها للكاتب الساخر الى حد
الإضحاك و المبدع بالكلمات الأستاذ أبو لوايه :
زميلي .. من فضلك اعمل سخريتك في العبد لله ..وهذا مع انني لست بصاحب مسئولية أو سلطة في النقابة او المهنة أو غيرهما .
أرجوك يازميلي أوسعني نقدا وتهكما وسخرية وأضحكني على نفسي.. وحتى اعود إنسانا . ولا تمنحنى أبدا مساحة لغواية النفس المريضة بالزهو والهيبة والتسلط .
وقانا الله الغرور والحماقة ..
وشر الافتراء .
.. ولاحظوا أن الطغاة ـ بما في ذلك ” صغار الطغاة” ـ أعداء السخرية ..وحتى الضحك .وهم بالأصل من معسكرات ” امنع الضحك “.
القاهرة في 8 نوفمبر 2019