بقلم دكتور / عمار علي حسن
بعد أن صارت الإقامة اليومية لأي نزيل بمستشفى الأمراض النفسية والعصبية بالعباسية تتراوح بعد 150 و550 جنيها لا تشمل العلاج والغذاء، ننتظر أن نرى مرضى عقليين ومضطربين نفسيا يهيمون على وجوههم في شوارع القاهرة، وبعضهم قد تردت حاله إلى درجة إيذاء النفس والغير.
كنا نقول إن السلطة الحالية أعادتنا إلى قرون غابرة في السياسة والتفكير والتسلط والجباية، لكن من الواضح أنها تعيدنا إلى عصور ما قبل التاريخ، بل إلى الغابة. وحتى تتأكد من هذا أرجو أن تقرأ هذه المقارنة البسيطة:
في عام 1284 انتهى العمل بالبيمارستان المنصوري في القاهرة، ليكون أكبر دار شفاء على وجه الأرض وقتها، خُصصت به قاعة للمرضى النفسيين والعقليين كانت تسمى “قاعة المخبولين”، يقضي فيها المريض يومه على نفقة الدولة، وما أوقفه بعض الموسرين، ويصرف له الدواء والغذاء كل يوم من مطبخ البيمارستان، ويزود بمروحة من خوص في الصيف للتهوية، ويُطلق بخور للتدفئة في الشتاء، وتفرش الأرض بأوراق الحناء، ويؤتى بعازفي موسيقي وحكائين لتسلية المحجوزين في قاعات كل الأمراض، وإن شفي الشخص المريض عقليا أو نفسيا يقبض خمسة دراهم من الذهب وكسوة، حتى تعينه على العيش إلى أن يجد عملا.
كان هذا يجري في مصر بينما في أوروبا وقتها كانت تشعل النار في مريض الفصام بدعوى أن روحا شريرة تسكنه.
كان البيمارستان فيه أقسام للجراحة والباطنة والعظام والرمد، لكل منها أطباء مختصين وممرضين، ويصنع صيادلة أدوية من معاجين وأقلمة شراب ومراهم وترياقات وخيوط جراحة.. الخ.
ولمَّا أًُهمل البيمارستان في أواخر القرن الثامن عشر، لم يبق فيه من المرضى سوى “المخبولين” هؤلاء، فأطلق المصريون اسم “المورستان” على مستشفى الأمراض العقلية، ونُقلوا بعدها إلى الخانكة، ثم العباسية، وها هم بعد 750 سنة من قيام البيمارستان المنصوري، لن يجد الفقراء منهم مكانا يأويهم.
لم ترجع العربة إلى الخلف، إنما تاهت في الغابة المتوحشة.