بقلم دكتورة / أماني فؤاد
(الفخراني) وسرْد الشياطين التي لم نعهدها ..
تتبخَّر وتنهار الحدود الفاصلة تمامًا بين مخلوقات الكون، في المجموعة القصصية “حفلة الإنس والشياطين”، لمحمد الفخراني، إصدار دار العين 2025، حيث يمارس المؤلِّف ألعابه “الفكرية – الفنية” من أجْل تفكيك هيكلة ما استقرَّ في الوعي الجمعي للبَشر عن الحدود بين الموجودات.
قسَّم الإنسان أشكال الوجود على الأرض – منذ قديم الأزل – لعالَمٍ للإنس، وآخَرَ للشياطين، ولكلٍّ طبيعته، وكائنات أخرى سماوية.
ورسَّخت الموروثات – التي شكَّلها البَشر وتخيَّلوها – الشياطين في الأغلب مصدرًا للشرور والقُبح والغرائب، فيأتي الفخراني ليرسم منعرجا فارقا، في ريادة فنية مبدِعة؛ ليهدمَ هذا الجدار المعرفي المتوارَث، ويفكِّك تلك المنظومات، في قصص تنداح وتتلاشَى فيها تلك الفروق الموضوعة بين المخلوقات: الإنس، والشياطين، والحيوانات، والطيور، وآخَرين أشار إليهم..، وأحسب أنهم سيحضُرون في نصوصه القادمة، فلننتظرهم.
يتقاسَم السرد في مجموعة القصص الإنس والشياطين، كما تتوالَى الشخصيات من النوعَين، ودائمًا ما يشير الكاتب للتنازع بينهم، مَن منهم الذي ابتدأ الأشياء، واخترع المعاني، وسَنَّ المقولات؟ يقول:””التسكُّع”، واحدة من كلمات يدَّعي الإنس أنهم أول مَن قالها، ويدَّعي الشياطين أنهم أول مَن قالوها، وهناك آخَرون يدَّعون، ولا أحد يريد التنازل، طبعًا، ومَن يتنازل عن ”التسكُّع”؟” (9) وسيلاحظ القارئ أن “التسكع” بنْية دالة جوهرية في هذه المجموعة، بما تحمل من تأويلات سنأتي إليها.
ونلمس – في نصوص هذه المجموعة – الحياةَ في تدفُّقها، دون شعارات أو طنطنة، وبلا كليشيهات، أو الالتزام بأية قضايا، عدا المعاني الإنسانية في مفاهيمها المطْلَقة العادلة، في حقيقتها التي تُعلِي المحبَّة، فالفخراني لا يكتب عن الشياطين التي نعرفها في كُتُب التراث، أو في الفلكلور الشعبي، والوعي الجمعي؛ بل يكتب عن شياطينه التي هي أقرب للأرواح الحُرة المنطلِقة، الشبيهة للغاية بالبَشر في كل تناقضاتهم.
نكتشف مع القاص أن الإنس هُم من ابتدأ الكثير من الأفعال، الخير والمحبة، والشر والغدر. فنون الطهي، ووضْع السم في الطعام؛ لقتْل الآخَرين، ففي قصص المجموعة غالبًا ما بدا الإنس أكثر انتهازية، ودون قِيَم متماسكة كبعض الشياطين، كما في قصة “البقدونس”، وشخصية فرحان، الذي يعشق الكتب، ولديه المكتبة الحلم، ويسعى للعدالة، ويثمِّن قيمة الصداقة والمعروف، وزوجته “سلوى لطيف” أيضًا.
- بنْية قصص الإنس والشياطين
ويتجاوَز الفخراني النوعَين من المخلوقات، ويفتح الأبواب؛ ليضيف منطقة أخرى ميتافيزيقية للوجود، لا أحد يعرفها، حين يقول عن نفسه ككاتب ضِمْني: “يحب أن يقرأه الإنس والشياطين والجن والعفاريت والنجوم والطير والحيوان والنهر والبحر والصحراء والشجر والليل والنهار، وظِل منفرد ليس معروفًا لمَن يكون.”(5) التعدد غاية الكاتب، ورحابة الموجودات وطبائعهم المتنوعة بالمعنى المتسِع، بعوالم وموجودات ومستويات من أشكال المخلوقات التي ندركها، أو لم نستطع بعد في قوله “وظِل منفرد ليس معروفًا لمَن يكون”، وإذ يقدِّم الكاتب تلك الرؤية الرحبة للخلائق ومستويات الوجود، وإمكانية تواصُلهم والعيش معًا، يقدِّم ذات الرؤية الرحبة، وتداخُل العوالم وتفاعُلها معًا، على مستوى فنيات بنْية السرد؛ بمعنى أنه حين يحكي في القصة الخامسة المعنوَنة بــ “أوضاع للحب والطيران”؛ يضفِّر بين أنواع القبلات، التي بين العشاق، وكيف تفنَّن فيها الإنسان من خلال شخصية “حبيبة صديقه”، وبين طريقة الطيور ومراحل حِرصها، وهي تأكل الحبوب، التي يضعها لها الإنسان في الشوارع والحدائق، وكيفية حَذَرها مخافة أن تكون الحبوب شَرَكًا أعدَّه لها الإنسان ليصطادها، فمن خلال هذا الضَّفْر والتتابُع في الحكي بين البَشر والطيور، يستحضر القاص ثراء العوالم وغِناها بالتعدد.
وأتذكر أنني حين تشاركت الحياة مع قططي، فكَّرت: كيف لم أفطن من قبْل إلى هذا الوجود الرائع، الذي يقترب من الأرض، لا يعلو كثيرًا، لكنني لم أشعر به من قبْل؟ أدركت وقتها إن العالَم أكثر غنًى وجَمالًا عمَّا ظننت، ربما يحيلنا هذا الضَّفْر في الحكي، وتتابُع الفقرات بين القُبُلات والتقاط الطيور لطعامها من الحبوب، إلَّا أن القبلات هي الأخرى يمكن أن تكون شرَكًا كبيرًا، بوابة الوقوع في الحب.
يقول السارد، الذي طلبت منه حبيبته أن يقبِّلها قُبلة نهاية العالَم: “عَصَرَ صديقي خياله لأجْل حبيبته، وقبَّلها “قُبلة نهاية العالم”، أعود للطيور والحبوب، في البداية يأتي طائر أو طائران، يقفان عند طرف حفنة الحبوب، ويتلفَّتان حولهما، ربما يكون فخًّا، الإنس اخترعوا قُبلة الفم، وهناك إحصائيات تقول إنَّ أغلب الإنسيَّات يُفضِّلن أن تبدأ القُبلة بالشَّفة السفلى، وأغلب الشيطانات يُفضِّلن الشَّفة العليا، البعض لا يُهمُّهنَّ أين تبدأ، المهِمُّ أن تبدأ، ويلتقط الطائران الحبوب، حَبَّة والتفاتة، حَبَّة والتفاتة، لم يطمئنَّا بَعد.” (92)
منذ القصة المفتتَح في المجموعة، التي بعنوان “أغنية التسكع”، نستهل المغامرة، أجواء الاحتفال بكل أشكال الخلْق، بسعادة الإنسان بكل المخلوقات من حوله، ومشاركتهم الحياة، يقول الكاتب: (لِتَكُن حفلة)، هذه الجملة التي تحيلك مباشرة لبداية معترَك، ساخر ربما، لا يأبه بالنتائج محتمَل، لكنها مغامرة تكسِر المفاهيم المستقِرة، لعبة ليست متوقَّعة النتائج، فمع الكاتب سنصعد أو نهبط لوجود مفارِق، وتداخُل حَيَوَات، وتنازُع معانٍ، وطريقة سرد مختلفة وغريبة، فلتكن حفلة كما استهلَّها، وعلينا أن نخوضها معًا.
تُرى ماذا لو صنعت ماكيت بدون سقف؛ ليحاكي حركة القَص في نَص المفتتَح “أغنية للتسكع”، وراقبت من مسافة فوقية توالي مَشاهد القصة؟ سيكتشف المتأمِّل دينامكية الأحداث الخاصة بشخوص القَص المنفتِحة على العالم، حيث تنفتح بنْية المكان، وتتواصل مع روح الشخوص، تنفتح على المقاهي والأرصفة والشوارع، التي يُسلِّم كل واحد منهم على الآخَر، فكل حدَثٍ – حتى ولو بدَا صغيرًا وعرضيًّا – يحمل في طيَّاته مدلولًا، ربما يحاكي طريقة الحياة ومساراتها، بأقدراها وتداخُل موجوداتها وكائناتها، التي نراها، والأخرى التي لا نراها، ما أعنيه أن للقَصِّ رؤيةً، رؤية تتأمل العالَم في كُليته، وتشابُك موجوداته، وتداخُلها في مسارات متشابهة للغاية، لا فروق جوهرية؛ بل إدراك لغِنَى الوجود، وتعدُّد مستويات أشكال الحياة به، كما أن لكل فرد عوالِمَه التي تتغير باستمرار، وفي حركة دائبة. يقول: “في إحدى مرّات التسكُّع حصلْت على واحدة من أجمل وأطول قصص الحب، كنت أمشي بخطوات متأنية على رصيف شارع بوسط المدينة، واكتشفْت أني وهي نمشي متجاورَين دون قصد، منذ ثلاث أو أربع خطوات، في بداية الأربعين من عمرها،..، شعرْت أني وهي معًا في حياة كاملة منذ عشرين سنة، وأننا قضينا سهرتنا بوسط المدينة، واشترينا لها ملابس، والآن في طريق عودتنا إلى بيتنا، مشينا عشرين خطوة تقريبًا، عشرين سنة، دون قصد، حتى وصلَت إلى صديقتها فتوقّفَت، وأكملْت أنا تسكُّعي.”(9) فلنكمل التأمل: هناك رجُل في الثمانين من عمره يقابل السارد، المشَّاء المتسكِّع، ليُصِرَّ على تقاسُم الطعام والبرتقالة معه، ثم يقابل شيطانًا سبعينيًّا يسأل بائعة متجولة عن جُملة، ادَّعى كلٌّ من الإنس والشياطين أنهم أول مَن قالوها؛ فترد:”أنا واقع في حبك”، هناك أشجار وعربة فوقها السندوتشات وأطفال وضحكات، يقول: “فوضى رائعة من رقْص ومزِّيكا وفرح، وأحب أن أُجرِّب كل المشاعر، وأرى كل الأماكن، وأتعرَّف إلى كل مَن وما في العالم، وأحب أن أحب كل واحدة في العالم، وتكون لي قصة حب معها، وأحب أن أكتفي بواحدة فقط من العالم.” (11) في المشهد أيضًا فتاة في الثامنة عشر تمشي مزهُوَّة بأنوثتها، يصِفُها الكاتب بأنها مثل حيوانة رقيقة جامحة. يقول: “وثدياها يرتفعان وينزلان مع إيقاع خطواتها، هي تعرف ما تفعله، والمزِّيكا التي على صدرها، الشارع كله لها، ورائحة سنواتها الثمانيَ عشرة تُسعِد الهواء، وأميل ناحية شجرة لأُسَلِّم عليها، فأُمَرِّر يدي على جسمها، وأقول لها: “كيف حالك اليوم؟”، هكذا يكون سلامي للأشجار في النهار، أمَّا بالليل، خاصةً في وقت متأخِّر، تكون فرصة لألُفَّ ذراعي حولها، وأحضنها خفيفًا دون أن يلاحظني أحد.” (12)
لا تخلو قصة في المجموعة من الجسد البشري؛ لكونه عنصرًا رئيسًا في الحفلة، التي نحن بصدد استكشافها، وخوضها في المجموعة؛ فيتناول الكاتب علاقاتِ الحب، وبعضَ أنواعه بطريقة أو أخرى في المجموعة، لكن المعالجة في مجملها إنسانية، ودون ابتذال أو إثارة للغرائز الفَجة، في السرد وعي بالجسد والعاطفة معًا، وكيف يمكنهما أن يجعلا الحياة أجمل، وأكثر تواصُلًا بين المرأة والرجُل؛ بمعنى أنهما يَهَبَا حياةً للحياة.
ونستكمل في المقال القادم