بقلم دكتورة / أماني فؤاد
في تسارُع التوترات الأخيرة، التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، بين إسرائيل، وإيران، والولايات المتحدة، ودخول قطَر على المشهد؛ برزت ظاهرة لافتة للنظر: كيف يسعى كل طرف لتسويق روايته الخاصة للحرب، وللنصر أيضًا، حتى لو اختلفت الحقائق على الأرض؟
هذه الظاهرة ليست جديدة في عالَم السياسة الدولية، ولكنها تتجلَّى بوضوح في زمن الانتشار السريع للمعلومات، وتعدُّد توجهات وتمويل المواقع والمنصات الإعلامية، وأيضًا ظاهرة “الشعبوية”، التي باتت تحكُم القيادات وأيديولوجياتها.
سوَّقت إسرائيل، الحرب والنصر، الذي ادَّعته، بفكرة “الدفاع الفعال عن النفس”، حين استهدفت مواقع النووي والصواريخ الإيرانية، ثم “الردع الناجح”. فبعد تعرُّضها لهجمات إيران، سارَعت إسرائيل إلى تأكيد قُدرتها على اعتراض معظم القذائف والصواريخ، مبرِزة قوة نظامها الدفاعي الجوي. كما تم تصوير الردود الإسرائيلية على أنها “ضرورية” و”متناسبة”، وتهدف إلى استعادة الردع في المنطقة. ركزوا على الرسائل التي تُظهِر إسرائيل قوة قادرة على حماية مواطنيها وحدودها، وأن أيَّ هجوم عليها سيواجَه برَدٍّ قاسٍ، مما يرسِّخ مفهوم القوة الرادعة.
في حين رصدت الوقائع الهزيمة النفسية للمواطن الإسرائيلي، وازدياد حالات الهلع والاكتئاب في المستشفيات، كما سجَّلت الكاميرات هجرات الأُسَر الإسرائيلية بالآلاف، ورصدت الحكومة في تل أبيب طلبات من المواطنيين الإسرائيليين بتعويضات الضرر لأكثر من خمسين ألف بيت، خلال الأسبوعَين الماضيَين، هذا فضلًا عن تحطُّم فكرة التحصين، التي كانت إسرائيل تروِّجها، فلقد أثبتت إيران أن صواريخها تطال قلْب تل أبيب، وتفرض على الجميع البقاء في الملاجئ.
وعلى الجانب الإيراني، تم تسويق “النصر” من منظور مختلف تمامًا، يرتكز على فكرة حرية القرار والفعل، و”مواجهة الهيمنة” و”الصمود”. بغض النظر عن النتائج العملياتية الفِعلية، ركزت الرواية الإيرانية على أن الهجوم كان ردًّا مشروعًا على انتهاكات سابقة، وأنه أظهر “قوة” إيران في مواجهة أعدائها. وأنها لم تخضع للضغوط، وقادرة على اتخاذ قرارات سيادية دون خوف من التهديدات الخارجية. ويهدف تسويق خامئني هذا إلى تعزيز الروح المعنوية الداخلية، بعد خسائر فادحة، وإظهار إيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاوُزها.
في حين أن الواقع يقول إنه تم العودة بالقدرات النووية الإيرانية لعقود مضت، كانت قد أنجزتها. والقضاء على ٧٠٪ من منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية، والإجهاز على الكثير من علمائها في المجال النووي، وبعض القيادات العسكرية، لضمان شلَل القدرات الإيرانية، كما لم نَرَ أيَّة فاعلية لكل أذرُع إيران في المنطقة، في حرب الاثنَي عَشَر يومًا، هؤلاء الذين ربَّتهم وسلَّحتهم طويلًا.
أما الولايات المتحدة، فقد سعَت لتثبيت هيمنتها العسكرية في المنطقة، بهدف حماية المصالح الأمريكية، وحلفائها، ثم مباشرة نجاحها في تجنُّب حرب إقليمية واسعة النطاق. الرسالة الأساسية هي أن الولايات المتحدة قوة لا غِنَى عنها؛ للحفاظ على الأمن العالَمي، وخاصة أمام قُوَى أخرى مثل الصين وروسيا، وأن تدخُّلها كان حاسمًا – أولًا – في الردع، ثم في تهدئة الأوضاع، بجهودها الدبلوماسية المكوكية، التي نجحت في احتواء التصعيد، مع الدول الوظيفية في المنطقة، وذلك من خلال الضغط على الأطراف المتورِّطة.
في حين تأكَّد للجميع أن ترامب بشعبويته، وخُيلائه هو من يحدد القرار العالمي، وأن العبث بالقوانين الدولية صار مباحًا، ويفرض – بالطائرات الـ(بي 52) وغيرها، وعمليات الاستخبارات – وما يريده. تقول الوقائع أيضًا إن أمريكا لم تعد دولة المؤسسات والخطط، التي يحددها العقل أو الموضوعية؛ بل صارت فتوة العالَم الأكبر؛ الفتوة الشرس والقبيح، الذي يؤخَذ على محمَل الفزَّاعة التافهة، بعبثية تصريحاته.
كما برَز دور قطَر، كوسيط رئيس و”لاعب مؤثر”، في حلِّ الأزمات الإقليمية؛ حيث قدَّمت الدوحة منصة المفاوضات للجميع، بما يُظهِر سياسة قائمة على الحياد البناء، والحوار؛ وذلك لتهدئة التوترات وتحقيق السلام في المنطقة، هذا التسويق الذي يعزِّز دور قطَر كدولة ذات نفوذ دبلوماسي، يسعى لإظهار قيمتها كشريك موثوق به، يتحمل التضحيات الكرتونية، في أيِّ جهود لحلِّ النزاعات. كما سوَّقت قطَر – بعد ضرب إيران لقاعدة العديد – لقدرتها على صدِّ الهجوم، الذي استهدف أراضيها، وأهمية قدراتها العسكرية، وتجنُّب “الحفرة الدوامة”؛ حيث سعَت قطَر إلى تجنُّب ما أسماه الأمين العام للأمم المتحدة “الحفرة الدوامة من الانتقام”، مدرِكة أن التصعيد في المنطقة ستكون له عواقب وخيمة على الجميع. بدأت قطر بالإدانة الرسمية، والاحتفاظ بحق الرد، بما يضمن السيادة القطرية، لتخفيف الأضرار على المنطقة.
في حين يرى البعض أن الرواية كلَّها دراما هابطة، سابقة التجهيز، وُزِّعت فيها الأدوار الوظيفية، لسيناريو يَخرُج فيه الجميع وكأنهم حاربوا وانتصروا، مع ملاحظة أن مقولة: “وإن قطَر تحتفظ لنفسها بحق الرد”، يُعَد فتحًا لباب العودة للصراع إذا لم تستجب إيران لوقْف الحرب، وأرادت أمريكا ردعًا أقوى.
ولذا يمكن تفسير موقف قطَر من الهجوم الإيراني على القاعدة الأمريكية في أراضيها، ثم انخراطها المباشِر في التفاوض بين الأطراف، حيث يعكس توالِي الأحداث مجتمعةً سياستَها الخارجية المعقَّدة والديناميكية: موقف قطَر في هذه الأزمة لم يكن قبولًا سلبيًّا للهجوم الإيراني؛ بل كان مزيجًا من الإدانة الرسمية لحفظ السيادة، مع الاستفادة من دورها كوسيط فعَّال لمنع التصعيد، وذلك في إطار سياستها الخارجية القائمة على التوازنات الإقليمية والمصالح الوطنية.
في النهاية، ما شهدناه في هذه الأزمة هو أكثر من مجرد صِراع عسكري أو سياسي؛ إنه “حرب على الرواية”. كل طرف يسعى جاهدًا لبناء وتصدير روايته الخاصة للنصر، مستفيدًا من منصات الإعلام التقليدي والاجتماعي. هذه الروايات قد لا تكون متطابقة بالضرورة مع الواقع على الأرض، ولكنها تنسِّق حفاظًا على الدعم الداخلي والخارجي، وتعزيز الصورة الذاتية لكل طرف. وفي عالَم تتشابك فيه الحقائق مع التفسيرات، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن للمتلقي أن يميِّز بين الواقع والرواية المسوَّقة؟
وأسجِّل: إنه برزت مفاهيم وسياسات جديدة للحروب بعد 13 يونيو بين إسرائيل وإيران وأمريكا، واقع يُظهِر الجميع في النطاق السياسي المروَّض، فلقد بات العالَم يتصارع ضمن نطاق الترويض والتنسيق، نحارِب؛ نعم. لكننا نُنذِر قبْل الهجوم والضرب، نقوم بإحداث الشلل للمشروع النووي الإيراني؛ لكننا نخبرهم بموقع الضربة وموعدها، ليتم التخلُّص من المواد المشِعة بعيدًا، نستهدف القيادات العسكرية والعلماء؛ لكننا نبقي على رأس النظام، الكل يتحرك في النطاق المسموح به، بما يتماشى مع عقلية لا تؤمن بأية قيمة سوى المكسب والخسارة، وهيمنة أمريكا التي تقود الجميع، ولا ترضَى بالأضرار الفادحة، لا لحلفائها في المنطقة “دول الخليج”، ولا لربيبتها – بالطبع – إسرائيل، سياسة أمريكية تُدخِل الجميع في حظيرتها، لا أقضي عليك، لكنني أسيطر، وأبقيك في الحدود المسموح بها.