بقلم دكتورة / هبة عبد العزيز
فى عالم تتسارع فيه الإيقاعات وتتزايد فيه الضغوط اليومية، أصبحت النفس البشرية عرضة لمؤثرات سلبية لا تحصى، تبدأ من ضجيج الأخبار وتنتهى عند التوترات الاجتماعية والاقتصادية والعاطفية . وسط هذا الزخم، تبدو حماية النفس بمنزلة معركة يومية، وخط الدفاع عنها ضرورة حيوية لضمان توازن الإنسان وصحته النفسية وبينما تتكاثر المؤثرات السلبية كغبار العاصفة، أجد أن الدفاع عن النفس لم يعد خيارًا، بل صار فرضًا وجوديًا لا يحتمل التراخي. لقد أدرك الفلاسفة منذ قرون أن النفس الإنسانية هشّة بطبيعتها، وأن صيانتها تتطلب جهدًا مستمرًا. الفيلسوف الإغريقى سقراط قال ذات يوم «اعرف نفسك» وهى دعوة أولى لبناء خط دفاع داخلى يقوم على الوعى العميق بالذات
حين يفقد الإنسان علاقته بذاته، يصبح لقمة سائغة لكل ما يحيط به: قلق الأخبار، سموم المقارنات، سخرية الآخرين، وضغوط الحياة اليومية. لذلك أرى أن خط الدفاع الحقيقى يبدأ من الداخل، لا من محاولات يائسة لتغيير العالم الخارجي. الإنسان القوى نفسيًا لا يعيش فى عالم مثالي، بل يعيش فى وعى ناضج بحدود تأثير العالم عليه
أتأمل هنا فى قول للفيلسوف ماركوس أوريليوس: الذى كتب لا تزعجك أفعال الآخرين؛ هم لا يملكون أن يفسدوا روحك ما لم تسمح لهم بذلك ، هذه الحكمة البسيطة تضع المفتاح فى يدك.. أنت من تملك قرار السماح أو المنع، أنت حارس نفسك الأول والأخير
ومع ذلك، فإن بناء هذا الدفاع يتطلب أكثر من مجرد شعارات. إنه تمرين يومي: أن تقول «لا» حين يجب أن تقولها، أن تصغى لصوتك الداخلى بدلًا من ضجيج العالم، أن تختار السلام على الجدال، وأن تعرف متى تنسحب من معركة لا تستحق أن تخوضها
أومن بأن ضبط حدودنا مع الآخرين من أهم خطوط الحماية. يقول الفيلسوف الألمانى شوبنهاور: الوحدة قد تكون للعقل الراقى نعمة، وللعقل السطحى نقمة تعلم أن تختار وحدتك حين تصبح الصحبة عبئًا، وأن تحيط نفسك بمن يزيدونك طاقة لا يستنزفونها.
ولا بد أن أشير إلى أن استثمارنا فى ثقافتنا الداخلية هو بمنزلة بناء حصن لا يُخترق. كل كتاب نقرأه، كل فكرة نتبناها بوعي، كل عادة صحية نزرعها فى يومنا، تشكّل لبنة إضافية فى هذا السور النفسى الذى يحمى الإنسان من الانهيار أمام عواصف الحياة
كما أن أقوى أسلحة الدفاع عن النفس أيضًا: بناء المرونة النفسية. المرونة لا تعنى الهروب أو التجاهل، بل القدرة على امتصاص الصدمات، التعامل مع الانتقادات، وتجاوز الخيبات دون أن تتكسر الروح. وقد أثبتت الدراسات أن الأشخاص الأكثر مرونة نفسية هم الأقل عرضة للاضطرابات النفسية مهما كانت البيئة المحيطة بهم سلبية أو ضاغطة
وخط الدفاع عن النفس لا يُبنى عشوائيًا، بل يعتمد على الوعى الذاتى وإدراك الفرد لمصادر التهديد التى تحيط به ، وهى الخطوة الأولى نحو الحماية. فحين يكون الإنسان مدركًا لما يُضعفه أو يُحبطه، يصبح أكثر قدرة على التعامل معه بحكمة، دون أن يسمح له بالتغلغل إلى أعماقه أو أن يفسد سلامه الداخلي.
وفى نهاية الأمر كما قال الفيلسوف الرومانى سينيكا «نحن لا نملك السيطرة على العالم ولكن نملك القدرة للسيطرة على أنفسنا وهذا يكفينا» .
من هنا، أرى أن الدفاع عن النفس ليس درعًا مؤقتًا، بل فلسفة حياة قائمة على الوعي، والاختيار، والمسئولية. فى زمن اختلطت فيه الأصوات، يكون خلاصنا بأن نصغى جيدًا: لا للعالم، بل لما فى أعماقنا