بقلم دكتورة / أماني فؤاد
”نعم. صِرنا أصدقاء، بالرغم من كوننا لم نلتقِ من قبل”، هكذا سيقول قارئ مذكرات المهندس ورجُل الأعمال: صلاح دياب، التي عنوَنها بــ “هذا أنا ..”، والتي صدَرت عن الدار المصرية اللبنانية العريقة 2025،
حيث يقدِّم صاحب السيرة ذاته بسلاسة وتلقائية في 400 صفحة، بأسلوب مباشِر ومكثَّف، على طريقة رِجال الأعمال، مواقف ونقلات فاصلة في حياته، يصوِّب بها نحو أهداف محدَّدة، وينتقل من محوَرٍ لآخَرَ، ممَّا أنجَزه من أعمال، بروح الفريق التي يؤمن بها، والتي يصِف موقعه فيها بأنه صانع أهداف، كما يشير للمؤثرات، ومصادر التكوين التي أحاطته، ولذا جاء الكِتاب مشوِّقًا، خفيف الظل، سريع الإيقاع، تظلِّله روح المؤثِّر الفرد، وتطلُّع المصلِح الاجتماعي، الذي يدرِك أهمية تنمية الذات والمجتمع. إحدى عينَيه دائمًا على مصر وواقعها، وصناعة مستقبلها، والأخرى ترصُد الغرب والشرق الأقصى؛ ليستلِهم الجيد من تجاربهم، ويحلم بتحققه في مصر.
يؤمن صاحب المذكرات بقدرات الفرد على التغيير، ويضرِب مِثالًا بمهاتير محمد، ونلسون مانديللا، في معرَض حديثه عمَّا أنجِز في مصر في عهد الرئيس السيسي.
صلاح دياب القادر على رؤية القضايا من مناظيرَ مختلفةٍ، فعلى سبيل المثال يرى الديون المصرية بحسبانها أصولًا مضَافة للبلد، وثروة لم تبدَّد. كما يرى أن مشروع “حياة كريمة” بإمكانه ــ إن نفِّذ كما يحلم ــ أن يصنع نقلة نوعية في حياة جموع المصريين، حيث يحلم بالدلتا منطقة تصنيع كبرى، ويستلهم في هذا النطاق التجربة الصينية.
مَن يطالِع المذكرات؛ سيلحَظ تكرار قول الكاتب: “وذهبت إلى مكتبه مباشرة” في فقرات كثيرة متفرقة، ويقصد بها مكاتب المسئولين مصريين وأجانب، سياسيين أو مُلاك شركات، حيث يبادر بالذهاب عند ظهور العراقيل أو سوء الفهم، هذا التكرار يفصِح عن شخصية تمتلك القدرة على المواجهة، وإيمانًا بالأعمال والأفكار التي تبنَّتها طيلة حياتها، وتدعمه في هذه المواجهة قوة الشخصية، وقدرته على الإقناع، وقوة المال أيضًا فيما أحسب، كما حنْكة السنوات، والرؤية خارج النطاق المعتاد، هذه الرؤية المتجاوِزة للمألوف، التي امتدت إلى فهْمه وتفسيره الخاص لبعض آيات القرآن، إلى طبيعة الدعاء أثناء طقوس الحج.
في هذه السيرة الذاتية التي جاءت في عشرة فصول، واعتمدت على سرْد الأحداث والذكريات الأهم في حياته، كأن صلاح دياب يقول لقُرائه من خلال المواقف: هذا أنا. أنا ما عشت وفعلت، أنا كل مَن حاورتهم وصحِبتهم وتعلَّمت منهم، أنا المواقف التي تركت بصماتِها على صفحات ذاتي وسنواتي، أنا التجارب التي خُضتها؛ فنجحت في بعضها، وفشلت في الأخرى، أنا نتاج ما عاصرت منذ ثمانين عامًا من أحداث وقادة وسياسات وتحولات، أنا ما تخيَّلت وحلمت، وكتبت واقترحت، بداية من رسائلي لأسرتي، حتى عمود نيوتن بجريدة المصري اليوم، التي قمت بتأسيسها، وباتت من أهم الجرائد المستقِلة في مصر.
من بين صفحات هذه السيرة نتيقَّن من أن النجاح لا يأتي صدفة، ولا يطرُق أبواب مَن لا يلتقطه ويقبض عليه وينمِّيه، ففي المستوى الأول، لو لم يكن صلاح دياب من تلك العائلة، ويتمتع بكل ما لجدِّه توفيق دياب من مكانه، ومعارف مع رجالات العصر، مثقفيه وسياسيِّيه، واقتصاديِّيه؛ لم يكن سيحظى بكل هذه الفرص، الفرص تأتي في البداية دعمًا من مكانة العائلة ومعارفها، لكن النجاح الحقيقي يتشكل ويتطوَّر حين يملك الفرد الإرادة والمقومات، وتوظيف الملَكات والتحرك السريع، وهو ما فعله صاحب السيرة. ففي كل فرصة استشعرها؛ شملها بذكاء الاستشراف، ووضَعها في السياق المناسب؛ ليضمَن نجاحها، وعمل بجدية من أجْلها استنادًا إلى رؤية واستراتيجية تضمَن الاستمرار.
كما نلمَح في هذه المذكرات التداخُل، والتقاطُع الوجودي بين الاقتصادي والسياسي، والإنساني، مثل مساهمة صاحب السيرة في دعم جامعة النيل، أو رؤيته للخصصة، وإشاراته لتجربة تاتشر في بريطانيا، وريجان في أمريكا.
وعلى امتداد صفحات السيرة، يشير الكاتب لبعض الأحداث السياسية وكيف رآها من منظوره، هذا حين قَص عن تقدُّمه للعمل في توسيع قناة السويس وتطهيرها بعد قرار الرئيس السادات بإعادة افتتاحها للملاحة، أو العمل مع بعض الشركات الأمريكية بعد معاهدة كامب ديفيد.
كما يفصح في الفصل التاسع عن آرائه وانطباعاته في الرؤساء، الذين عاصَرهم في حُكم مصر، ورؤيته لإنجازات كل منهم، وامتنانه للإيجابيات التي حدَثت في عهْد كل رئيس منهم. وإن تعجبت من حديثه عن كاريزما عبد الناصر؛ لكنني بِتُّ أستسيغ هذه الحالة التي مَر بها معاصِرو عبد الناصر، وتلك الهالة التي صنعتها عوامل متعددة؛ جعلته في أعينهم على تلك الصورة المتضخِّمة، رغم وعيهم بأخطائه السياسية فادحة التأثير على مصر.
يحتفي صلاح دياب في مذكراته كثيرا بأهل الثقافة والعلم والكُتاب والصحفيين الكبار، وهو ما توارَثه عن جده، ويذكر كيف التقى بعدد كبير من أعلام ورجالات مصر في عصورها المختلفة، حتى أنه هيأ من وقته لقاء أسبوعيًّا ليشعر دومًا بأن عقْله يحاوِر كل ما هو جديد ومتفرد من خلال لقاءات يرتبها ببيته مع زمر من أعلام الثقافة.
ويعرِّف الكاتب الأرستقراطية كما يراها بقوله: “هي أيُّ طبَقة، أو مجموع، تتميز بشيء من خلال التعليم، أو القدرات، أو الغِنى والمال، أو التميز الاجتماعي”59. هذا وقد حظِيَ دياب بالأرستقراطية الاجتماعية على حد تعريفه بتعلُّمه في المدرسة الإنجليزية، ثم في الفنية العسكرية، ثم في كلية الهندسة، جامعة عين شمس، كما عاش حياة الريف الأرستقراطية، وحظيَ أيضًا بفرص عمل، لم تكن تتاح لغيره؛ نتيجة لمناصب أفراد عائلته، مثل زوج خالته الذي اصطحبه للعمل معه في محطة قوَى السويس الحرارية؛ فاجتهد وأعاد تنظيم الموقع والعمل، حتى صار مديره، وهو ما أعاد له الثقة في قدراته، بعد أن فصِل من الفنية العسكرية.
لم يمرر صلاح دياب تجربة في حياته إلا واستفاد منها، حتى لو بدَا ظاهريًّا أنه لم يوفَّق فيها، فلقد رسخت الفنية العسكرية فيه أسلوبًا صارمًا ومنظَّمًا في إدارة العمل، في العقاب الذي يكون بمثابة عِبرة للجميع، في القدرة على ممارسة القيادة الجماعية.
يقول عن نفسه: “لن تجد في هذه المذكرات شخصًا مثاليًّا، فقد كانت لي أخطاء وحماقات، كما كانت لي أفعال أفخر بها. غامرت، ودفعت ثمن مغامراتي، لذلك مررت بنجاحات وإخفاقات. تحمَّلت اختبارات قاسية. حصلت على الكثير من المِنَح، كما تعرَّضت للكثير من المِحن. دخلت معاركَ، آثارها ما زالت محلِّقة في أفقي”، كما يفصح عن المؤثرات التي كوَّنت شخصيته، أولها: المناخ العام للمجتمع، الذي نشَأ فيه، في المدرسة الإنجليزية، التي اتسمت بالتعدد الثقافي والديني والعرقي، وتعدُّد الجنسيات، ضمن وعي يحفَل بالإنسانية والليبرالية والمناظرات.
هذا الوعي الذي دعاه لتزويد القارئ في الفصل العاشر من المذكرات بشهادات قصيرة من أسرته عنه، الزوج والأب.
وتتردد في أسلوب الكاتب عبارات من قبيل: “حسب مفهومي، كما أراها، في ظَني ..”، ودائمًا ما اعتقدت إن الأسلوب هو الرجُل، الأسلوب يفصح عن حقيقة اعتقادات الإنسان، وتلك التعبيرات تشي بإيمان صلاح دياب بمعتقداته الليبرالية والديمقراطية، التي تؤمن بتعدُّد الرأي وحرية التعبير.
كما يتجسد صاحب المذكرات غير منزَّه، يكتب دون أن يستهدف تصوير ذاته مثاليًّا؛ بل يترك قارئه يتلقى إنسانًا طبيعيًّا، يصيب ويخطئ، لا يركن ليقين، فعادة ما ينفي ما قد يتبادر لذهنه، ويتحوط في قول الأشياء كافة، ويثمِّن المناطق البينية، أو فلنقل التي تتراوح بين الصعود والهبوط، بين التواضع والكِبْر، بين الصدق والمراوَغة، بين الشعور بالأهمية أو العادية، بين النقاء والشك، في تلك المناطق البينية؛ يضع صلاح دياب ذاته فيراها كما هي.
في هذه السيرة يلمَح القارئ روح طبيعية تلقائية، تمتلك مخزونها العائلي، الذي يحتفي بمنظومة أخلاقية تحترم الالتزام والعمل والوطنية، روح فطرية تصرِّح بحاجتها للتقدير والاهتمام، شخصية تحتاج لمَن يساندها، رغم قوتها، ولا تسعَد إلا إذا شاركت أقرب المحيطين بها نجاحاتها، رغم قوَّتها.
ويتحدث صلاح دياب عن المشروعات التي أنجزها في حياته بكثير من المحبة والتقدير، كأنها شخصيات حيَّة، ولها كيانات نابضة، كيانات حلم بها في خياله، وشرع فيها، ثم كبرت معه وتطوَّرت، “المصري اليوم، لابوار، بيكو للزراعات، وأيضًا للخدمات البترولية والاستكشافات، نيو جيزة وغيرها، كيانات طوَّرها على الدوام، وحرص على مواكبتها للمستوى العالمي.
لا يؤمن كاتب المذكرات بالهدم؛ لكنه يثق في التطوير، وتراكُم المعارف والخبرات، يؤمن باللامركزية – التي وجد فيها الحل – في إدارة شركاته، كما اقترحها في حُكم المحليات، لتكون طريقة مُثلى لإدارة المحافظات المصرية كما يرى.
ويسهب صاحب السيرة في قصِّه لحكايته مع جريدة المصري اليوم، فيسرد تفاصيل إصدارها، والشراكات التي دعمت نشأة الجريدة، واختياره لرؤساء تحريرها، وبماذا امتاز كل منهم، وخلافه مع بعضهم، وأوضح أن المنفعة العامة ونشْر الوعي في الجموع كان حلمه الذي توارثه من جده، كما يصِف حِرصه الدائم على بقائها تمثِّل كل أطياف الرأي والتوجُّهات.
كما يتحدث عن الإشاعات التي أثيرت حوله دائمًا في كل مشروع أنجزه، وكيف أن هناك أجسامًا مضادة للنجاح بكل صورة، شخصيات كارهة، من طبيعتها تشويه كل معنى، وكيف عانَى من الحاقدين في جل مشروعاته.
تنساب مذكرات صلاح دياب في أسلوب رشيق ومكثَّف خفيف الظِّل ومشوِّق، ويتغلب عليه الحِس العِملي العقلاني، حتى أن تشبيهاته وكناياته تدلل على هذا، فحين يتحدث عن عائلته في الفصل الأول يقول: “ما يدخُل في تكوين الصلب يتشابه مع ما يدخل في تكوين الإنسان ..”
ويستنتج القارئ بعض خصال شخصية السيرة من المواقف التي يسردها الكاتب، بينه وبين جده، وخاله، وأمه، وأبيه، وأصدقائه من رجال المال والأعمال والسياسة والكُتاب والمثقفين، يستشف طبيعته من اختياراته وقدراته، فلقد كانت المخيلة اليقظة هي قائده الأول للتميز، ثم تلتها المثابَرة والقدرة على الاحتمال، وتتبدى المواقف التي مرت بحياة صلاح دياب وقام بسردها لقراءه هي التي رسمت البورتريه الخاص بشخصيته، حيث لا مكان لليأس ولا الثبات، بل الإصرار الدائم على تطوير المسارات.
يقدِّم صلاح دياب – بمذكراته تلك – نموذجًا لشخصية مصرية تجسد رأس المال المثقَّف، ذات حس فني تحترم الخيال المنهجي، الخيال الذي يميز الإنسان، ويدفعه للفعل، ليس على نسَق تقليدي؛ بل يقفز فوق السائد، وهو ما يحتاجه البشر والمجتمعات للتقدُّم والتطوير، ذلك حين يخلق الفرص، ويوفر لها أسباب نجاحها. كما يجسد الكاتب في سيرته قيمة الوفاء في صورتها الناصعة، حين يتحدث بامتنان عمَّن أحاطوه بالرعاية والحب والعطاءات، جده وعمه كامل دياب، وزوجته عنايات الطويل.
وفي النهاية تجسد هذه المذكرات شخصية مقاتل، آمن بأحلامه وحقق أكثرها دون ضجيج، طبيعة مغامر، حرضّ على الحراك؛ للتطلع إلى المستقبل، إنسان اعتد بذاته وعقله فترك أثرا على المستوى الشخصي والعام.