عاجل

“i24NEWS”: مسيرات إسرائيلية تقتل عناصر في “حماس” اشتبكوا مع “أبو شباب” في غزة

# صلاح جاهين صوت الحلم الوطني

بقلم دكتورة / أماني فؤاد

على مَرِّ التاريخ الممتَد، يظَل من المبدعين قِلةٌ قليلة تحمل حِزَم الضوء ‏الفارقة، تلك التي تجسِّد روحَ الأوطان وتطلعاتها، وتمثِّل وَثبَاتٍ راقيةً في ‏فهْم الوجود والتعبير عنه، إنه إبداع فني وفكري يعبِّر عن الجموع، وينغمِس ‏في همومهم، دون أن يفقِد عُمقَ الرؤية ونضارتها، المبدِع صلاح جاهين، ‏أحد الأسماء الباقية، التي تعبِّر عن روح الأُمَّة المصرية العريقة، ابن ثورة ‏‏1952، الذي وُلد في 25 ديسمبر 1930، وغادر عالَمَنا في 21 أبريل ‏‏1986.‏
‏(صلاح جاهين) الشاعر “صاحب الرباعيات”، والسيناريست، وفنان ‏الكاريكاتير، صانع البهجة والفرح، دون التخلِّي عن فلسفة الحياة، مؤلِّف ‏‏”الليلة الكبيرة”، الذي قدَّم الكثير من الأعمال، التي خلَّدها تاريخ الفن ‏والأدب، ونال بسببها مكانتَه، التي جعلتْه يشغَل – حتى الآن – موقعًا ‏متفرِّدًا في تاريخ العطاءات المصرية. ‏
ماذا لو أن “فيلسوف البسطاء”؛ صلاح جاهين، يعيش لحظتنا الحاضرة ‏تلك، ماذا لو بُعِث ثانيةً؟ أظُنه سيُنشِد “بين موت وموت.. بين النيران ‏والنيران.. على الحَبْل ماشيين: الجدَع والجَبَان .. وعجبي علَى دِي حياة!”‏
تجسَّدت عبقرية جاهين في امتلاكه رؤية واعية للشخصية المصرية، ‏بطبقاتها كافة، وتنويعاتها، بقُدراتها، وحِكمتها، التي اكتنزتها على مَرِّ ‏التاريخ، امتلَك ثقافةً ذاتَ حِسٍّ وطني، وآمَن بقُدرة الفن على إحداث تغيير ‏في المجتمع، كما سَعَى للتَّمَاس الدائم مع مشكلات الناس وقضاياهم. ‏وحين شَعَر صلاح جاهين بالفجوة بين الأحلام العظيمة، التي آمَن بإمكانية ‏تحقُّقِها لوطنه، وما حَدَث على أرض الواقع، وخاصةً بعد النكسة؛ شَعَر ‏بعبثية الحياة، وارتطم بالواقع السياسي، واهتزَّت مقومات وجُوده.‏
تمثِّل «الرباعيات» قِمَّةَ الإنتاج الشِّعري لدَى جاهين؛ إذ اتَّسمَت بالتكثيف ‏الشديد، والمَيْل إلى الحِكمة والفلسفة، وطرْح معانٍ وجودية وإنسانية شديدة ‏العمق، في أقل عددٍ من الكلمات، وبأسلوب بسيط بالعامية المصرية، ‏فكان صوت المصري حين يقول: “أنا شاب. لكنْ عمري ألف عام، وحيد، ‏لكنْ بين ضلوعي زحام، خايف، ولكنْ خوفي مِنِّي، أنا أخرس، ولكنْ قلبي ‏مليان كلام… وعجبي!”.‏
تعلَّقت أجيال كاملة بالشِّعر لأول مَرَّة، وخاصة وقت المَد الثوري في ‏‏1952، بأشعار صلاح جاهين، جسَّد الحلم، ووضَع جميع فئات الشعب ‏المصري والعربي في الصورة، التي شَدَا بها عبد الحليم، احتضن الجموع ‏في كلماته وصُورَتِه، التي تشِع عملًا وثقافة ومقاومة وتحديًّا، ولسهولة ‏أشعاره وبساطتها، بما تتضمَّنه من عُمق التأمُّل وجَمال الفكرة؛ استطاع ‏النفاذ إلى قلوب المثقَّفين والبسطاء على حَدٍّ سواء.‏
الشاعر – في الأصل – هو الذي يمتلك اللغة، وهو مَن بإمكانه أن ينحتَ ‏المفرداتِ، ويبثَّها طاقتَها الشِّعريةَ، ولقد قام صلاح جاهين بهذا على الوجْه ‏الأفضل للعامية، يقول جاهين: “أما اختياري لِلُّغة العامية فهو نابع من ‏انبهاري بشِعر العامية، وإمكانيات اللغة العامية الرهيبة في شِعر فؤاد ‏حداد”. ففي “الرباعيات” وغيرها تجلَّت جسارتُه اللغويةُ، حين جذَب من ‏العامية مفرداتِها الحيويةَ، وضفَّرها في أساليب صياغاته المتنوعة، ومهَّد ‏لها مساحاتٍ متسِعةً من الشِّعرية؛ أيْ الدلالة المحمَّلة بالظِّلال المتعدِّدة، ‏بالتأويل، بالأبعاد الفكرية والفلسفية، بوَهَج الوجدان والمشاعر، بالطزاجة ‏والتَّمَاس مع قلوب البسطاء وعقولهم؛ فجسَّد توقَهم إلى الحرية والكرامة ‏والوعي. وأحسَب أن انغماس صلاح جاهين في المجتمع بكل قضاياه، ‏ورغبته في التقاط نبْضِه الحيوي العميق؛ كان وراء اختياره للعامية ‏المصرية، التي لمَس يقظتَها ونبْضها المتجدِّدَ، فتجلَّى إبداعه في أنَّه ‏استنطق شِعرية العامية وجمالياتها، واستخدم ما نُسميه اللغةَ الثالثة؛ حيث ‏الفصحى، التي تتداخل مع العامية، قريبة الشبه بها، فأوجَد معادلتَه اللغويةَ ‏الخاصة، واختزل المسافةَ بين الشِّعرية والجَمالية ولُغة الناس اليومية.‏
وأبدع مقطوعاتِه المليئةَ بالتفاصيلِ والزَّاخرةَ بالحياة، والمترَعة بالفَرح ‏والحركة، كأنها مجموعةٌ من لوحات الرسوم المتحركة، ضمْن الأُطر الأدبية ‏وصياغاتها اللغوية.‏
أجاد صلاح جاهين الفنونَ المتنوِّعةَ: الشِّعر وكتابة الأغنية، والكاريكاتير، ‏وكتابة السيناريو، مع ثقافة فنية وفكرية عميقة؛ وهو ما أتاح لكلِّ لون فني ‏يمارِسه تخصيبَه بخصائص الفنون الأخرى، التي يمتلك عوالَمَها ووتقنياتِها ‏وروحَ شِعريتِها، وتجلَّى هذا في أفضل تجلِّياته في الأدب، حيث الرباعيات ‏وأوبريت الليلة الكبيرة، والأغنيات الوطنية والعاطفية.‏
اكتسب – من إجادته للفنون التشكيلية والرسومات الكاريكاتِرية – خصوبةَ ‏التقنيات وتنوُّعها؛ فلَوَّن أشعارَه، وحدَّد مناطقَ الحركة والسكون بها، ‏المناطق الملوَّنة بالحياة والفرح، والمظلَّلة بالحكمة والفلسفة، كما جعلت ‏كتابتَه مثل مَشاهد تُرى كما تُحَس، تتجسَّد للمتلقي وتأخذ بيده لعالَمها.‏
كما وظَّف انغماسه – في الواقع الاجتماعي الثقافي والسياسي – في ‏ابداعاته؛ فانسابت حيوية تلتقِط التفاصيل الدقيقة من البَشر وأعماق ‏مشاعرهم وتقاطعاتهم النفسية.‏
واتَّسمت رسومات جاهين الكاريكاتيرية بالجرأة في نقْد الأوضاع السياسية، ‏والتعبير عن هموم الحياة اليومية المصرية، لا سيِّما في عقْدَي الستينات ‏والسبعينات، مع خِفة الظِّل والقدرة على التقاط المفارقة من مفردات الواقع ‏الاجتماعي المتنوعة. في أحد حواراته، وصَف نفسه بالفنان المتكامل، ‏وقال: “التخصُّص يقتلني، وأنا لا أطيق الحياة بعيدًا عن الفنون المختلفة”. ‏
يقول: “قالوا الشقيق بيمُص دم الشقيق، والناس ماهيَّاش ناس بحَق وحقيق، ‏قلبي رَميته وجِبْت غيره حَجَر، داب الحَجَر .. ورْجِعت قلبي رقيق.” هذا هو ‏صلاح جاهين ابن الموروث المصري الإنساني الشفيف، المنغمِس في ‏تراب المحَبة لهذه الحياة، وهذا الوطن العريق.‏

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net
موقع الرسالة العربية