عاجل

إيران تزيح الستار عن صاروخ “اعتماد” الباليستي بمدى 1700 كيلومتر
إسرائيل تستعد للانسحاب من وسط غزة في إطار الصفقة: تبادل الأسرى وإعادة الإعمار على جدول الأعمال
سوريا تحت قيادة الشرع تفتح صفحة جديدة مع الخليج، فهل تنجح بإعادة بناء الجسور بعد عقود من العزلة؟
محمد صلاح الرابح الأكبر.. ترتيب هدافي “البريمير ليغ”
لقطات بين أشرف بن شرقي والجماهير على هامش حضوره مباراة للأهلي تثير تفاعلاً
#حلم_بكر …… شعر
أمينة خليل والسعدني وشاهين بمسلسل “لام شمسية” في رمضان
“مضادة للمدمرات”.. الحرس الثوري الإيراني يكشف عن مدينة صاروخية جديدة تحت الأرض
أسير إسرائيلي أمريكي محرر يوجه رسالة شكر إلى مقاتلين في “القسام”
النيابة الإسرائيلية تفتح تحقيقا جنائيا ضد سارة نتنياهو في أعقاب برنامج “عوفدا” الاستقصائي
# أصالة ودريد فى «جوى أورد»!
بروكسل تحذر واشنطن من رد صارم في حال فرضها رسوما جمركية على السلع الأوروبية
حكم تاريخي.. الإدارية العليا تنتصر لـ أصحاب المعاشات | تفاصيل
# ترامب فى البيت الأبيض
بعد تصريحاته عن “التهجير”.. الملك عبدالله سيلتقي ترامب بواشنطن 11 فبراير

# تفكيك الأيديولوجيات في “صيف سويسري” ‏

بقلم دكتورة / أماني فؤاد

‏(1) ‏
تمارِس الروائية العراقية؛ إنعام كجه جي، لعبةً طريفة في طريقة سرْدها لروايتها ‏الأحدَث: “صيف سويسري”، التي صدرت عن الدار المصرية اللبنانية 2024. ‏فهي تزاوِج بين تقنية السرد بالراوي العليم، كما تُطلق أصوات شخصيات النَّص ‏الروائي، ويبدو هذا الراوي الفوقي وكأنه يحضُر ليكمِلَ المناطق الفارغة، أو ‏البيضاء، في قَصِّ تفاصيل أحداث الرواية وشخصياتها، وبنْيتها الدالة؛ أي الأفكار ‏التي تطرحها.‏
في إحدَى مهام الراوي الفوقي، الذي يقدح مخيلته، يقول:”في مقهًى بغدادي بلوري ‏البياض، آخِر شارع الرشيد، قبْل وزارة الدفاع بقليل، جلس الملك غازي يلعب ‏الشطرنج مع عبد الكريم قاسم. صدام حسين يشرب الشاي في إستكان نوري ‏السعيد. سليمة باشا تغنِّي، ويونس بحري يضبط لها الإيقاع. هناك ترَاهم جميعًا ‏يتقاسمون التخوت. الرفيق فهد والسيد الصدر والوزيرة نزيهة والمتمرد السعدي ‏والعقيد المهداوي. يحيط بهم كثْر غيرهم. من أمثالهم. لا غشاوة على عين الرائي، ‏ولا مونتاج يتلاعب بالصور. يقصقص ويلصق ما يشاء. كأن مقهى الوفاق ‏صهريجٌ تنصهر فيه العداوات. يصبح اللامعقولُ معقولًا. تجفُّ سواقي الدم، التي ‏لوَّثت دِجلة، وعكَّرت الفُرات. سمَّمت أسماك الشبوط، ولوَت أعناق النخيل.‏
كلهم صاروا تحت التراب. تذرو رمادَهم الرياحُ الأربع. ذاكرة عنود تستخرجهم من ‏لحودهم، وتلملم غبارَهم. تعجنه بحفنة من ماء خُلبيٍّ. تسحب كراسي الحُكم من ‏تحت مؤخراتهم، وتجلِسهم على مقاعد المقهى. لا مهرَب، بعد عمْر معيَّن، مِن ‏تداخُل الأزمنة. تحضُر شخصيات غابت في القرن الماضي؛ لتجالِس من بلَغ ‏مشارف قرن جديد. نساء ورجال مسحوبو الذاكرة. بِيْض القلوب كاللبن الصافي.” ‏‏(14)‏
ما يعتبره الراوي مونتاج ولعبة قَص ولصْق، وتكتبه إنعام كجه جي بحسبانه فنتازيا ‏للعبة متخيَّلة، حدَث في جوهره وصورته منذ أيام، وقعت أحداثُه أمامنا، ونقلته ‏الكاميرات إلى الجميع، ففي احتفالية تنصيب (ترامب) رئيسًا لأمريكا لفترة رئاسية ‏قادمة، حضَر حفل التنصيب أربعةُ رؤساء سابقين لأمريكا؛ بايدن وأوباما وبيل ‏كلينتون وجورج بوش، كما حضَرتْ سيدتان، سبَق وتنافستا على رئاسة أمريكا؛ ‏هيلاري كلنتون، وكامالا هاريس.‏
تلك هي أمريكا، لها ما لها، وعليها ما عليها، لكنه النظام الديمقراطي الذي تعدَّى ‏الــ 250 عامًا ممارسة دون دماء وعنف إلا قليلًا، هو الوعي الذي يتيح إمكانية ‏التعايش معًا رغم اختلافاتنا، والاستمرار في الحياة لصالح بلداننا رغم التنوع ‏الحزبي والطائفي والعَقَدي، ودون انقلابات وثورات، وقتْل الرؤساء، والتنكيل بهم ‏أو سجْنهم. يأتون ويذهبون في ظِلِّ التزام الجميع بما قرَّرته الجموع واختارته.‏
مقهى الوفاق – الذي تخيَّلته الكاتبة، وحلمت به – في العراق، في قلب بغداد، ‏بجوار وزارة الدفاع العراقية، واقِع هناك في أمريكا، “على مدد الشوف” كما يقول ‏صلاح جاهين ويتغنَّي عبد الحليم، في الولايات المتحدة الأمريكية شاهدنا نموذج ‏التعايش الذي نحلم به، وتتخيله كاتبتنا، نموذج تَجري أحداثُه واقعًا أمامنا. ولعلنا ‏هنا نتساءل مِرارًا، ماذا ينقصنا لنتعايش رغم اختلافاتنا؟
تلهو الكاتبة – في المقطع المذكور في بداية المقال – مع الزمن وتكثِّفه، تصوغه ‏بطبيعة خاصة؛ فتجمَع عقودًا عاشتها هذه الشخصيات السياسية والفنيةُ، وتدغمهم ‏معًا في برهة زمنية واحدة، لعله الوفاق!.‏
كما تخترع المكان، هذا المقهى البلوري، وتحدِّده بدِقة، وكأنه هو والحدث حقيقة ‏بجوار وزارة الدفاع، توهم قارئها بمكان الوفاق الذي لم يحدُث، ولن يحدُث – فيما ‏أحسب – في المنطقة العربية لعقود قادمة، فقد رمى “فئران التجربة” (حاتم ‏الحاتمي، وبشيرة حسون، وغزوان البابلي، ودلاله شمعون) الأقراصَ التي لن ‏تجعلهم يتعصبون لانحيازاتهم في نهر الرَّاين، في مدينة بازل بسويسرا، جمَّعوها، ‏ورمَوها، فلكل منهم أصول أيديولوجية متصارِعة مع القُوَى الأخرى، اجتازوا ‏التجربة بهدف التخلص من التحزُّب، والقدرة على استيعاب الاختلاف، لكنهم ‏رفضوا الأقراص خوفًا من أن تنمحي ذاكرتهم وينسوا جذورهم.‏
كما تبدَّى ليَ المكانَ الرئيس – في هذا النَّص – في المساحة بين إنسان العراق، ‏أو المواطن العربي، والإنسان في الحضارات الأخرى، في المسافة بين بغداد ‏وبازل، أو أيِّ عاصمة عربية ونيويورك.‏
تتخيل إنعام كجه جي، ويحقق آخَرون من غير العراقيين ولا العرب تلك الأحلام ‏المستحيلة.‏
‏(2) ‏
تدور سردية “صيف سويسري” حول أربعة شخوص تلقَّوا عَرْضًا لقضاء إجازة ‏‏صيف فى مدينة بازل بسويسرا؛ لإجراء تجربة، ليس ‏عليهم إلا أن يبتلعوا حبتان ‏برتقاليتان، وواحدة صفراء في الصباح، وواحدة أخرى خضراء بعد العشاء، تقدِّمها ‏لهم ممرضةٌ حسناء، وجلسات يومية للبوح والحديث مع طبيب نفْسي (بلاسم) ‏العراقي؛ والراحة وسط جبال وبحيرات وغابات سويسرا.‏‎
لم تتردد الشخصيات فى قبول هذا العرض السخيِّ في البداية، فقد أنهكتهم ‏الأيديولوجيات التي آمنوا بها ذات يوم، وتحزَّبوا من أجْلها في أوطانهم، شتَّتهم ‏الاحتراب والتحزب، وأصبحوا لاجئين في كل بلدان العالم؛ لأنهم لم يحتملوا ‏بعضهم البعض، كما لم يتقبلوا خلافاتِهم. ‏
يصفهم معالِجُهم النفسي د. بلاسم، يقول: “ليسوا خارجين على القوانين؛ بل ‏مخابيل أفكار معتَّقة. مطلوب منه أن يعالجهم من الإدمان العقائدي. وسواس ‏أسود يخنس لهم من تحت الجلد. يتلقَّون التعليمات من مرشِدهم ويعتنقوها. وحْي ‏ينزل عليهم من أنبياء دجالين. لأنهم مراوغون؛ يكذبون بأناقة. موهوبو كلام. ‏هكذا كان يرى زعماء التيارات السياسية.” (56)‏
متى يمكن أن نختلف ونتعايش، متى تبقينا اختلافاتنا الأيديولوجية بَشَرًا، ‏كحضارات أخرى يتجادلون بالأفكار والسياسات، لا الرصاص والتفجيرات، ‏معارِضون دون انتهاك إنسانيتنا، متى نترك القتل والتصفية والتمثيل بالجثث ‏وتحطيم التماثيل، متى يمكن أن نحترم الحياة، أفرادًا وأنظمةً ومؤسساتٍ سياسيةً، ‏متى يمكننا حين نكتشفُ أخطاءَنا أن ننتقدها ونغيرها؟
‏(3) ‏
لسردية “صيف سويسري” بنْية متشابكة، فقد يراها البعض رواية شخصيات، أو ‏رواية فكرة متخيَّلة، تخلِّقها الكاتبة؛ لتُشير لضياع البَشر وانكساراتهم نتيجة تحزبهم ‏واعتقاداتهم الدينية والطائفية والحزبية والسلطوية، في دول يتناوَب حُكمَها أحزابٌ ‏وأفراد لا يعترفون بالاختلاف الذي هو أصل الوجود، أنظمة وطوائف وتيارات ‏تأكل نفْسَها ومعتنقي سياساتها. شخصيات تجمعهم انكسارات حياتهم وذواتهم، بعد ‏تعرُّضهم لكل أنواع العذاب، وشعورهم بالخداع، وعذابات الضمير الداخلي، ‏لاكتشافهم خواء الكثير من الأفكار التي آمنوا بها ذات يوم، وما مارَسه البعض ‏من مسْحٍ لأذهانهم بشعارات وأيديولوجيات تبدو برَّاقة؛ لكنها في الواقع لا تصمد ‏كثيرًا في المواجهة مع القُوَى التي تسيطر على الأرض.‏


وقد يصنِّف البعض الرواية بإنها رواية مقارَنة بين المدن والحضارات الطاردة ‏لأولادها، والأخرى الحاضنة للإنسان والبَشر مهما اختلفت أعراقهم وثقافتهم، في ‏مقارَنة بين العرب والغرب، وإن ثبَت أن الغرب ليس بهذا التجرُّد، ولديه دومًا ‏مخططاته الاستعلائية والانتهازية.‏
‏(4)‏
وتبدو بنْية الشخوص في هذا العمل مركَّبة، يتجسد كيان كل واحد منهم عبْر ‏صوت الشخوص ذواتهم، وحكْيهم عن أنفسهم، وقَصِّ بعضهم عن الآخَر، كما ‏في حكْي الحاتمي عن بشيرة، وأيضًا الإضافات التي يبثها صوت الراوي العليم، ‏الذي يصِف ويعلِّق ويضيف دائمًا، ففي بعض الفصول تبوح كل شخصية بما ‏تعرَّضت له في حياتها – في العراق – من ظروف، أماكن النشأة وأصولهم ‏الأُسرية وآثارها على مسيرتهم، ثم بداية الانتماءات والأحداث التي تتابعت عليها، ‏والتأثيرات التي مورست من السُّلطات الحاكمة، كما تصِف لحظات الانتهاك ‏والخوف والانكسار، ثم الشتات والعيش تحت نيران الغُربة والحنين للأوطان مهما ‏بَدَت قاسية.‏
ترسم الروائية متحرِّيَةً الإحاطة حياة متكاملة لأربع ضحايا بشرية، دفَع كلٌّ منهم ‏ثمنًا فادحًا للحزبية والطائفية وحيل الساسة، التى ‏تفرِّق مواطنيها ولا تجمعهم، ‏حيث تهيِّئ الكاتبة لكلِّ نموذج منهم بيئته الجغرافية، وتاريخَه الأُسري، وظروفه ‏الحياتية والعائليةَ، فتُبرِز الصدوعاتِ التي لدى كل شخصية، ومَواطن ضعْف كلٍّ ‏منهم، سواء كانوا من مجتمع ريفي مثل الحاتمي، الذي سخِرَت زوجته من طريقة ‏نُطقه؛ فترك هذ صدعًا نفسيًّا بينهما، الحاتمي المنبهِر بالعاصمة بغداد، وبالقائد، ‏والقومية العربية، يقول:”أيقن أنه مواطن ذو رسالة. جهة ربانية سلمته الوطن ‏عهدة وأوصته به” 20. كما تصِف بيئةَ (غزلان البابلي) الفقيرةَ، وأثَر ابن عمه ‏المنتمي لحزب العمائم. وتجسِّد واقع (بشيرة)، دون سَند؛ بعد موت أبيها وعَيشها ‏وحيدة مع أمها. كما تصِف حياة (دلاله)، المرأة المدلَّلة من زوجها لاعب الكرة ‏المشهور.‏
تُبرِز أيضًا الروائيةُ سِماتِ الشخصية وطبيعتَها، كأن تكون خفيفة الظِّل مثل ‏غزلان، أو متحفِّظة مثل بشيرة، وتشير لملامحهم الجسدية، وكيف تركت أثَرًا في ‏أقدارهم مثل (الحاتمي)؛ الذي يناديه أصدقاؤه “سور الصين العظيم”، أو جَمال ‏بشيرة وانطلاقاتها في شبابها، واعتدادها بذاتها.‏
‏ وإذ تضع الروائية لكل شخصية ملامحَها؛ تضعُها في المناطق البينية كما ‏الحياة، فليس هناك نموذجٌ تحرِّكه نوازع الشر طيلة الوقت، ولا الخير المطلَق؛ بل ‏لكل شخصية نقاط ضعْفها وقوَّتها، صراعاتها الداخلية والخارجية، مناطق خيرها ‏وشَرها، تحقُّقها وضياعها، بحثها عن بدائلَ قد تجِد معها الأمانَ والارتياح. ‏
كما تكوِّن الروائية كثيرًا من سِمات شخصيات نَصِّها، من قلْب المواقف التي ‏توردها في الحكي، ولذا يتوالَى السرد منسابًا دون شعور بخطابات مباشرة أو ‏جهورية، المواقف فقط هي التي تشير للمعاني والصفات، التي تنبِّه لها الكاتبة. ‏فيفصح موقف البزَّة العسكرية – التي أهداها القائد للحاتمي – على تغلغل إيمانه ‏بالقائد، وما يمثله من أفكار، لقد رفَض أن تغسل زوجته البزَّة؛ لأن القائد لَبِسَها ‏ذات يوم، ولذا ضرَبها حين غسلتها؛ فتصدَّعت علاقتهما، (ص18)، أو ادعاء ‏بشيرة إنها اغتُصِبت في الحجْز، للتخلُّص من ورطة حمْلها من قيادي الحزب، ‏الذي أحبته، لكنه اختفى، وتركها وحيدة تعاني من مأزق حمْلها.‏
يتوالى حكْي الأربع شخصيات: (حاتم الحاتمي) الرفيق العروبي؛ عتَلَة في عجَلة ‏الحزب الحاكم، وآخَر مُنتمٍ لحزب العمائم؛ (غزلان البابلي)، والطبيب العراقي الذي ‏يشرِف على علاجهم؛ (بلاسم) أو حلَّال العقد، وتجْمع ثلاثتَهم جلسةُ النبيذ فقط، ‏لكنهم يظَلُّون أضدادًا، فلكلٍّ منهم قناع ‏أيديولوجيٌّ متعصِّب، أرض لا تقْبل الآخَرَ ‏ولا تستوعب فِكْرَه، وكأن الشِّقاقَ قدَرٌ لا فكاك منه، وتنضم إليهم (بشيرة حسون) ‏اليسارية التي اكتوت بخذلان من أحبَّت واختفائه، واعتُقِلت إلى أن أطلَق سرَاحَها ‏حاتم الحاتمي، الذي أحبَّها دون أن يفصِح لها، جارها في بغداد. ورابعتهم دلالة ‏شمعون المبشِّرة بمملكة يهوه.‏‎‎
لا يعرف الأربعة المساحاتِ المشترَكةَ، حيث الوطن الواحد، الذي يصهِر الجميع ‏في محبته، لم‎‎‎‎‏ يجدوا أنفسهم داخل الوطن، رغم عِشقهم للعراق، ولا خارجه أيضًا، ‏تعذِّبهم ذكرياتُهم واستباحة إنسانيتهم وكرامتهم في بلدهم، كما لا يريدون التخلص ‏من تلك الذكريات؛ وإلا شعروا بالضياع التام، لذا تتحكم الغربة في أرواحهم ‏ويشعورن بالتشظي، فيتوسَّل بعضهم بالحب، المعنى الوحيد الباقي للتعلُّق به. كما ‏أنهم لا يستطيعون الانفصال عن بلدهم مهما رحلوا؛ فيتابعون أخبارَه، ويرفضون ‏الانقطاع عن جذورهم. ونستكمل في المقال القادم.‏

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net
موقع الرسالة العربية