بقلم / يامنة بن راضي
لا غرو أن الطبيعة الصماء الجميلة قد تتحول في أحيان كثيرة من أم رؤوم لبني البشر الى وحش كاسر يفترسهم ويهدد حياتهم، تلك الحياة التي على ما يبدو لا تساوي شيئا عند أقرانهم من البشر ..ولئن حل الشتاء ضيفا دافئا محملا بالكثير من اللقاءات والصباحات البيضاء الندية للغالبية من سكان هذه البسيطة، فإنه في المقابل قدم على أهلنا في غزة ثقيلا مكسوا بالأسى يحمل معه ألما يمزق شغاف القلوب ودموعا مدرارا، كيف لا وهو يفتك بالأجساد الطرية لأطفال غزة فيحولها الى جثث هامدة، وبدل ان يدرك هؤلاء الأطفال على غرار أطفال العالم روعة جمال الشتاء بلعبهم ومرحهم وشغبهم أجهز هو عليهم بكل قسوته..وكأن الجوع الذي أنهك براءتهم وطغيان الاحتلال الهمجي غير كافيان لإفناء حياة هذه العصافير البريئة ..
يقال .. كلما أمطرت يخرج الأطفال رؤوسهم الصغيرة ليرسلوا أمنياتهم الى السماء، لكن كيف لأطفال غزة أن يخرجوا رؤوسهم وهم أصلا في العراء في خيام رثة لا تقيهم برد الشتاء القارس ولا رياحه المزمهرة ولا ثلوجه العذبة الصعبة بل على العكس تعجل بمنيتهم، وكيف لهم أن يمارسوا حقهم في الحلم وهذا العالم بأسره تواطأ ضد براءتهم وضد أحلامهم ..
لا مجال للشك أن فصل الشتاء بكل هدوءه وعناده وخشونته هو الوحيد القادر على تعرية الجميع وعلى رسم الصورة الحقيقية لكل انسان..وهكذا هو شتاء غزة حيث رائحة الموت أقوى من رائحة القهوة الساخنة اللذيذة، وحيث الصمت الأبدي لأجساد الطفولة الهزيلة هناك بفعل البرد أكثر من هدوء المكان …فقد كشف هذا الشتاء السوءة المشؤومة لهذا العالم المنافق، عالم لا يستح أن يبرز كذبه و زيفه نهارا جهارا..يحتفل بميلاد جديد بأمنيات الرحمة والمحبة والسلام ورحيل أوجاع الإنسانية ..وهو ذاته يحول بصره ويصم آذانه عن تلك المآسي العظيمة التي يتخبط فيها الغزاويين منذ اكثر من عام ..ولا نذيع سرا إذا قلنا أن لفافات الموت الذي جمد أيام أطفال غزة كما جمد عروقهم ..هي لا حدث عند هذا العالم الذي سقط أخلاقيا ..
لعمري .. لقد صدق من قال ان ليالي الشتاء الباردة أصدق من ضجيج العامة، فهذه الليالي الشتوية ببرودتها ولسعاتها في خيام النازحين لسكان غزة فيها من الصدق الذي يغيب ولا أثر له على هذه المعمورة، تلك الأرض الرحبة وبكل مافيها عجزت أو بالأحرى تدعي أنها عاجزة عن إيقاف آله القتل الصهيونية الجهنمية عن أهل غزة وعن تلبية ولو النزر اليسير من حاجياتهم من المأكل والمأوى سيما في هذه الأيام الشتوية القاسية .. ما يحفظ بعض إنسانيهم المهدورة ..
يعد الشتاء بالنسبة الكثيرين ذاك الفصل المليء بالحكايات التي لن تتكرر ..والأمر سيان لأهلنا في غزة فقصص شتاءهم بين ردهات العذاب والصبر متفردة ولن تتكرر ..