بقلم دكتورة / حنان راضي
العقل الإنساني مرآة تعكس تصوراتنا وأفكارنا، ولكنه في الوقت ذاته نافذة نرى من خلالها العالم. ومع ذلك، ما نراه من هذه النافذة ليس الواقع المجرد، بل هو صورة مشوهة بما نحمله من أفكار مسبقة وتجارب ذاتية. في هذا الإطار، يظهر أن كل إنسان يرى العالم بعينيه الخاصة، لا من خلال عدسة الحقيقة المطلقة. فكما يقول المثل الشهير: “كلٌ يري بعينِ حاله”.
الواقع، في جوهره، مجرد ولكن إدراكنا له يمر عبر فلاتر الشخصية والعُقد الداخلية. كل فرد يحمل مجموعة من القيم والمفاهيم التي تشكل صورته عن الواقع. هنا يأتي دور الفيلسوف، الذي لا يكتفي بالعيش ضمن حدود هذا الإدراك المشوش، بل يسعى إلى فهم الأمور من خلال التحليل العميق والتفكير النقدي. الفيلسوف ليس مجرد متحدث، بل هو مرآة تعكس أعماق الواقع كما هي، بعيدًا عن الأوهام والتصورات الذاتية.
عندما قال سقراط: “تحدث كي أراك”، كان يدعو الناس إلى التعبير عن أفكارهم بوضوح، لأنه عبر الحوار والنقاش تظهر جوانب الفكر والشخصية. لكن، يجب أن نتساءل: من يفهم هذا المتحدث حقًا؟ هنا يبرز الفارق بين الفيلسوف والعامة. الفيلسوف هو الذي يحلل الكلمات والمفاهيم، ويغوص في أعماق الفكر ليكتشف الحقيقة الكامنة. أما العامة، فإنهم يرون المتحدث من خلال تجاربهم وعُقدهم الخاصة، ولذلك قد يفهمون كلامه بما يتوافق مع عقولهم، لا مع الحقيقة التي يسعى المتحدث لنقلها.
في الحياة اليومية، نميل إلى تبسيط الأمور وفهمها من خلال نماذج ذهنية ثابتة، لكن هذا التبسيط يحمل في طياته اختزالًا للواقع. الفيلسوف، من جانبه، يرفض هذا الاختزال ويسعى إلى رؤية الصورة الكبيرة، لأنه يدرك أن العالم أكثر تعقيدًا مما يبدو على السطح. ولذلك، قد يبدو حديثه معقدًا أو مبهمًا بالنسبة للبعض، لأنه يعبر عن تلك الحقائق التي تتجاوز الإدراك البسيط.
الفهم الحقيقي يتطلب وعيًا عميقًا بالنفس والعالم، وهذا الوعي لا يتأتى إلا من خلال التأمل والتفكير النقدي. عندما نتحدث مع الآخرين، نحن لا ننقل لهم فقط الكلمات، بل ننقل لهم عوالمنا الداخلية وتجاربنا. وبالتالي، يصبح الحوار الفلسفي وسيلة للتعبير عن الذات واكتشاف الآخر. ولكن، هل كل إنسان قادر على استيعاب هذا العمق؟ هنا تأتي الإجابة: لا، لأن الفهم مرتبط بمدى قدرة الفرد على التفكير خارج حدود مفاهيمه المسبقة.