بقلم دكتورة / أماني فؤاد
إعلان موجع على لافتة متوسطة الحجم، مكتوب فيه: “للبيع .. بيت لعائلة”، البناية فريدة وجميلة، كبيرة، مكونة من أربعة أدوار، غالبًا ما يكون الدور الأول للأب والأم، ودور مخصص لكل ابن أو ابنة، تشي ديكوراتها والزخرفات الخارجية بجمال الداخل أيضًا، تفصح عن اختيار دفء المحبة، والذائقة الرفيعة، وحلم الأُسرة التي خُطط لها لتظَل معًا، حيث تنطق كل تفصيلة معمارية بجماليات ضافية، وبما يكمن خلفها من مشاعر تفيض بالعطاء والمحبة، فالبيت دائمًا هو بداية القصة، الحياة الجديدة التي تُعاش فتقرِّبك من حلمك الذي عاش طويلا يقتات من ذاتك.
”للبيع .. بيت لعائلة”، كيف للقصص الجميلة أن تُغتال هكذا!؟
وقفت طويلا أتأمل البيت، وأستحضر شخصياتِه وأجيالَه، أتخيَّل الأحلام التي يشيِّدها الآباء قبْل الجدران والأسقف التي يحرصون أن تجمع العائلة وتحتوى وتدفئ. البيوت تهبك ما لا يقال، حيث تُقحمك على الفور فيما يُعاش بالفعل، فيما يُحس ويُشم ويمكن تذوقه. تُقحمك في المحكَّات والاختيارات التي ستبذل من أجلها، وكما تُشعرك بحلاوة العطاء، تهبك لذة الآخِذ. فكيف إذن تتبدد تلك الأمنيات التي تطوي أعمارَ الآباء وجهدهم ومدخراتهم، حين لم تعد حلمًا للأجيال الأحدث، ويتم عرضها للبيع.
تأبى قدماي أن تغادرا، حيث خيالات بشَر تتحرك على الحوائط الخارجية، التي بدت كشاشات كبيرة، ظلال أجساد تروح وتجيء، بدأت المَشاهد تمُر أمامي دافئة، تفيض بالسعادة لأم وأب وأولادهما وأحفادهما، مَشاهد من بيوتنا الحانية الحميمة، مناسبات شتى، تجمعهم فيها الأحاديث، والأطعمة والألعاب والمذاكرة ومشاهدة التلفزيون، وغيرها من تفاصيل الحياة، حيث الدعم العاطفي الدائم والمادي الذي يفيض من الآباء، فتشعر بطاقة حُب تتسرب إلى كيانك وتضيئه، ثم إذا بالزمن يهرول بكل تحولاته الدرامية، فبعد “توافق الإرادة” الذي يتبدى للجميع في البدايات؛ لصغر الأبناء وعدم اتضاح رؤيتهم الخاصة، تُعرض البيوت للبيع اضطرارًا بعد كبرهم، ويتبدد الشعور بالعزوة، ويتناثر الونس، كما تتشقق الأحلام وتُجفف.
لا تخنق آخَر بحلمك ..
البيوت التي يشيدها الآباء، وبعض المشروعات والمؤسسات، ويهيئون لها التواصل والاستمرار، المنازل التي يستغرقون في تفاصيلها سنواتٍ من أعمارهم، ليظللونها بالدفء، وتنطق أركانها بالذكريات، ومن خلالها يتصور الآباء إنهم يقدِّمون الأفضل لأولادهم والأكثر أمانًا، بناءات معمارية وبناءات إنسانية أيضا يشدّون بها كياناتهم ويسندونها في الحقيقة، قد يتصورون إنهم يحمون بها كبرهم وشيخوختهم. لكن التغيير الحتمي يأتي صارخًا، فتحت وقْع الاختلاف ”الشخصيات، والزمن، والتطور” التاريخية بالمعنى الأوسع، يتكسر وهم كيان المجموع الواحد، وتنهار الأحلام التي بددت أعمار الآباء.
اللوحة تقول “للبيع .. بيت لعائلة”، كيف يباع بيت لعائلة، كيف يتحول المكان الذي حوَى الحلم لمكان يذرو كل الأحلام، ويهدد بالوحدة والنهايات؟
فالبيوت هي السكون وسط الضجيج، الاكتفاء من صخب العالم الخارجي، الونس بالأهل والإخوة والأخوات، البيوت هي لمَّة العائلة والأصدقاء، وقصصهم التي لا تعرف معنى النهايات، تلك الحكايات التي تهَب للحياة معناها ولونها، البيوت هي التي تحوي الذكريات وتحفرها في الأرواح لنتعلق بأهدابها وارفة الظلال.
من أجل هذه البيوت واستقرارها يقمع الآباء بذور التمرد الكامن في النفس البشرية، يحتملون الرتابة والاعتياد، ويعلون قيمة المؤسسة التي أوجدوها ولو على حساب ذواتهم، فيتعايشون تحت أي تبدلات للحياة؛ إعلاءً لمصالح الأبناء، وشعورهم إن الأرض التي يقفون عليها صلبة متماسكة، تجذبهم لمحيطها الداعم، فيشعرون بالأمان والاستقرار.
وبقدر جمال البيوت وعطاءاتها يعتري حيواتها غالبا روتين ثابت، ومشكلات الحياة اليومية التي تحكمها التناقضات، ولا تبقى على حال. يقمع أصحاب البيوت كل التحولات التي هي طبيعة العلاقات، وطبيعة الحياة أيضا إعلاءً لاستقرار حياة الأسر، يحاربون الملل بصناعة الفرح، ويغرقون الاغتراب الذي يطل برأسه في أعطاف ذواتهم البعيدة، ويغلقّون عليه الأبواب، يتماسكون وينثرون البهجة بأركان المكان كما الإنسان.
تصرخ اللوحة في الوقت ذاته بحقيقة لا يريد الآباء مواجهتها، فالجديد يفرض ذاته، إرادته هو وأحلامه، قراءة اللوحة بعقلانية تقول: ليس من حق جيل أن يصادر حلم جيل آخَر، فمن المنطقي، المتسامح مع تبدُّل الحياة، أن يستوعب الآباء أن أحلامهم لا تخص سواهم، وأنهم سبق وخالفوا مخططات آبائهم لكنهم تناسوا، رغباتهم لا تنتقل لأولادهم، ولا يتعين على الأبناء الدوران في فلَكها.
لماذا لا نسلم بهذا دون بكائيات!؟
هنا يتبادر السؤال الأهم: لماذا يحتدم الصدام عنيفًا بين الطرفين أو الجيلين، وتشتعل دائرة الجدل واختلاف الرغبات؟ أحسب أن كل طرف لا يضع ذاته مكان الطرف الآخَر، لا يقدِّر احتياجاته، لا يعي كل منهما كيف تفكر النهايات، وكيف تتطلع البدايات؟ هذه البدايات التي تستقبل الأماكن بمفاهيم أخرى، ومعايير مغايرة.
ولذا تنطلق الخطابات المضادة من كل طرف، وتعلو الاتهامات، فيتحدث الكبار عن العقوق، وعدم تقدير البذل والعطاء والتخلي، ويتحدث الأبناء عن التدخل في الحياة، والرجعية وقتْل الطموحات الخاصة، يتحدثون عن الحريات التي يقيِّدها الآباء وسلبيات الضغط عليهم.
أنا بيت ذاتي
هل بإمكان الإنسان أن يفكر بأن ذاته وأحلامه – هو فقط – هي ما يتعين أن تحركه؟ هل بإمكانه هو وفطرته الانكفاء على نفسه فقط، أن تكون حدوده هي شخصه، أعني أن يفصل بين إرادته وحلمه وإرادة وحلم أبنائه، كيف وهو يتصور إنهم امتداداته؟
منذ البداية يحلم أن يكون له أطفال، ثم يشرع يخطط لمستقبلهم وأمانهم، وبدوره يبدأ في تحويل الحلم لواقع، وخلْق الكيانات التي تجمع وتضم وتؤمِّن الحياة، هل بإمكان البشر الانغلاق على أحلامهم فقط، وإذا حدَث، وهو من الصعوبة بمكان؛ هل يستطيع الإنسان ألا يحلم لبعضه، لأولاده، وإذا قدِموا للحياة؛ هل يستطيع ألا يرسم لهم أشكال القادم من السنوات، من المستقبل، وإذا لم يكن من طبيعة الآباء هذا التخلي أو الفصل بين ذواتهم وحياة أولادهم، هل يُعد هذا تدخُّلًا في حيواتهم وفرْض القيود عليهم؟
تأملت كثيرًا ما الحل في هذا الصراع الدائر بين الأجيال داخل الأُسرة الواحدة؟
أليس من الأفضل – طالما أننا سنهَب وندعم ونعطي – أن نشكِّل دعْمنا لأولادنا في مساحات متَّسعة، فنمكنهم من الاختيار فيها، حرية خلْق حيواتهم هم، وهنا أعني أن نهيئ لهم مدخرات بدلاً من الكيانات والأماكن، ليتمكنوا في الحركة بها، فبدلاً من البيوت الكبيرة التي تُفرض عليهم، تصبح العطاءات في صور متحركة، يمكن التصرف فيها دون أن يشعر الآباء بتخلِّي الأبناء عنهم كبارًا، واختيار رغباتهم الخاصة. ونعتهم بالأنانية، ربما وجَب علينا أن نعيد تشكيل وعْينا وطبيعة مشاعرنا.
كيف يحولون البيوت إلى قبور!؟
في مشهد آخَر للبيوت، تواجهنا الآن كل يوم مَشاهد الدمار لآلاف البيوت التي سُويت بالأرض في غزة في أشرس هجمة على فلسطين، ثم على لبنان، وهو ما يدعونا للالتفات إلى معاناة فوق الاحتمال، حيث الهدد في الأرواح كما البناءات. هذه الشعوب لا تمتلك رفاهية هذا الصراع الذي نتحدث عنه، بل يواجهون الموت والقذف الذي لا يهدأ، وكل أنواع الخسائر المروعة، اعتادوا الدماء والخراب المحيط بهم من كل اتجاه، يعانون العراء والجوع والفقر والأمراض، دون جدران أو أسقف. لا شيء يمكن أن يحميهم، لا بيت ولا كهف، مستباحون لا يمتلكون خصوصية، كيف ارتضى المجتمع الدولي وتعايش لمدة عام كامل مع هذا الظلم الواقع على هؤلاء البشر، كيف ارتضى حرمانهم من أول حقوقهم وأهمها، حق الحياة وحق الأمن والسكن!؟