عاجل

معارك عنيفة بالخرطوم لليوم الثالث.. والأمراض تفتك بالعشرات
إطلاق رشقات صاروخية كبيرة من جنوب لبنان باتجاه الجليل الغربي
الجيش الإسرائيلي يعلن رسميا مقتل حسن نصر الله
الجيش الإسرائيلي يزعم أنه قتل حسن نصرالله في الغارة على بيروت ولا تعليق من حزب الله
خطاب 6 أكتوبر.. هكذا حاول هتلر إنهاء الحرب العالمية
الضاحية الجنوبية في بيروت تتعرض الآن لهجوم واسع النطاق
بين تكلُّس الحُكم، وديناميكية الشعوب ‏ “أوديب في الطائرة”‏
ركلات الترجيح تحسم بطل كأس السوبر الإفريقى بين الأهلى والزمالك
وزراة الإسكان المصرية تخصص وحدات سكنية لأصحاب المعاشات.
مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى لـCNN حول مصير حسن نصرالله: قد يأتي التأكيد بأي لحظة
أول تعليق من البنتاغون على قصف المقر الرئيسي لـ”حزب الله”
خيبة أمل في إسرائيل بعد استهداف تل أبيب بصاروخ من اليمن
نتنياهو: “حزب الله” حوّل مدنا في إسرائيل إلى “مدن أشباح”
افتتاح مركز طبي روسي لأول مرة في مصر
وسط خلو مقعد السعودية.. نتنياهو يُبرز أهمية تطبيع العلاقات مع الرياض: “مصالحة بين الإسلام واليهودية”

بين تكلُّس الحُكم، وديناميكية الشعوب ‏ “أوديب في الطائرة”‏

بقلم دكتورة / أماني فؤاد

صدَر عن دار الكرمة 2024 أحدث كتابات الأستاذ (محمد سلماوي) الروائية؛ ‏‏”أوديب في الطائرة”. ويستدعي هذا النَّص إلى الذهن تأمُّلَ منطقة شديدة التباين ‏لطرفَي علاقة معقدة على مَر التاريخ، مساحة ذات توترات عالية ومتناقضة، ‏حيث المسافة ــ بتتابُع مراحلها ــ بين رأس الحُكم، القابض على الأمور، وبين ‏الجماهير؛ جموع الناس. ففي الوقت الذي يتبدَّى رفْض الجماهير لطريقة حُكم ‏الوطن والشعور بالديكتاتورية والفساد، ومن ثم التمرد والثورة والتفكير في بديل؛ ‏يشعر الحاكم عادة أنه لم يُقدَّر حقَّ قدْره، بعد أن وهَب حياته لشعبه، وقام ‏ببطولات خارقة، وعمل لصالحهم العام، مهما اتخذ من قرارات، بحجة عدم ‏معرفتهم لأبعادها. ‏
ففي هذا النَّص؛ “أوديب في الطائرة”، لم يشعر أوديب – الذي أصبح ملِكًا على ‏طيبة – بأنه قد بدَرَت منه أيُّ قرارات أو تقصير يستدعي غضَب الجموع وثورتهم، ‏حيث دافَع عن طيبة وأمْنها، أحَبها وكان بطلَها الذي حارب أسبرطة، وردَّهم عن ‏استغلال ثرواتها، هو أيضًا الذي قضى على الوحش، وقائد الجنود الذين كانوا ‏على أبواب طيبة.‏
لم يشعر أوديب بمعاناة الجماهير من الفساد، وتجبُّر القوَى الأمنية والعسكرية، ‏وضيقهم من توريث الوظائف في معظم مؤسسات الدولة، والقضاء على المواهب ‏الفردية المستحقة، ومن محدودية فُرص العمل، من معاناتهم في الجوع والفقر ‏وضياع المستقبل. ‏
لم يكن أوديب يدرك أنه بالفعل مَن استحضر اللعنة على طيبة وشعبها، لم يكن ‏يعرف أنه مَن قتل أبيه، وتزوَّج أمه. وأحسب أن لكل حاكم منظوره الذي يختلف ‏تماما عن منظور جموع الناس له. ‏
وانطلاقًا من منطقة بينية غائمة، تمزج بين الواقع والمرويات الأدبية العالمية ‏والأسطورية، منذ التاريخ البعيد، تتشكل البنْية السردية لهذا العمل الروائي، حيث ‏المزج بين الواقع والتاريخ، بتداخل بعض العناصر التعبيرية وتوليفها معًا، في ‏مغامرة كتابية تُشيِّد بنْية سردية تتجاوز الأشكال المعتادة في كتابة التاريخ والواقع. ‏حيث يتمثل الجزء الواقعي – في الرواية – في أحداث الثورات الشعبية القريبة، ‏التي وقعت في بعض الأقطار، في الإقليم العربي وشمال أفريقيا، منذ بداية العقد ‏الثاني من القرن الواحد والعشرين، وهو الموضوع ذاته الذي تنبأ به (محمد ‏سلماوي) في روايته “أجنحة الفراشة” التي صدرت قبل وقوع ثورة يناير بشهور ‏قليلة، كما تتمثل أيضًا في اختيار بنْية الشخصيات المأخوذة من الواقع المعاصِر، ‏ونوعية دراساتهم وأعمالهم، مثل (بترو) مخرج أفلام السينما التسجيلية وتخرُّجه في ‏المعهد العالي للسينما، وصديقه المهندس (لوكاس)، هذا التداخل التاريخي الذي ‏يتضح منذ العنوان ذاته؛ أول عتبات النَّص الذي يجمع فيه الكاتب بين أوديب ‏الشخصية الأسطورية في الأدب العالمي الكلاسيكي والطائرة وسيلة الانتقال ‏الحديثة، حيث الدمج بين القديم والمعاصِر.‏
في حين يستدعي الروائي التاريخَ بأسطورة أوديب ذاتها، وحكايات وأساطير من ‏التراث والمرويات اليونانية القديمة، وآلهتم ونبوءاتهم، كما يستحضر اسمُ أوديبَ ‏حيث اللعنةَ وعدم شرعية وصوله لسُدَّة الحُكم، وربما يتبادَر السؤال المحوري هنا، ‏لماذا تأتي شخصيات الحُكم من التاريخ القديم، بينما تأتي الرعية في صورتها ‏المعاصرة والحديثة؟ أيريد الكاتب أن يشير لعدم تطوُّر نُظم الحُكم وأساليبه في ‏منطقتنا منذ الأزمان السحيقة، حيث يُعاد صور تسلُّطها بأشكال متنوعة، في حين ‏تطورت بشكل ما إرادة الشعوب ووعيهم!؟
كما تَرِد أسماء شخصيات النَّص (أوديب، بترو، هيباتيا، تيا، لوكاس، تيريساس، ‏لايوس، جوكاستا) كحيلة سردية ترسلنا عبْر الزمن، فيتاخم التاريخ فيها ‏المعاصَرةَ، وتتكرر حكايات البشَر بداخله، وأنواع الصراع ذاته، والعلاقات الشائكة ‏بين الشعوب وحكامهم، وهنا يلعب اختيار الكاتب للأسماء على مستويين، أولًا: ‏كحيلة فنية للهروب من مضاهاة الأحداث والشخصيات بأحداث التاريخ القريب ‏المعاصر، في نوع من الغموض الشفيف؛ فنوَاجَه بقصص هيباتيا وبترو وتيا ‏ولوكاس وغيرهم، ومعاناة أوديب ورجال الحُكم.‏
والمستوى الآخَر للضرب رأسيًّا في عُمق التاريخ، وتبيان طبقاته، التي تمثِّل ‏مراحله الزمنية بما تحويه من الصراعات البشرية ذاتها، فضلًا عن أن الكاتب ‏يمارس لعبته الذكية في بنْية نَصه بتداخُل الأزمنة والأماكن والبشر؛ إدراكًا منه ‏لفلسفة التاريخ البشرية، وطرْح التساؤل المحوري: هل يعيد التاريخ نفسه، أم أن ‏قصصَ وحكاياتِ وصراعات البشَر والحكم هي التي تتكرر في كل مرحلة وحقبة ‏زمنية؟
هذا المزج بين التاريخ والحاضر يجيب بطريقته الفنية عن التساؤل السابق من ‏خلال بنْية النَّص السردي؛ حيث يروي بطريقته هذه الحقيقة التاريخية الفلسفية. ‏فعلى المستوى الفني والسردي يشكِّل الكاتب لعبة أو تقنية الأماكن وتضفيرها ‏أيضًا بين الحديث والقديم، فكما تحضر الميادين بحشودها الشعبية وحركة الثورة ‏فيها، توجد أيضًا آلهة اليونان القديمة، والمعبد وكبير الكهنة، وصوت زيوس، ‏ونبؤته المقدسة، هذه المتاخَمة والتداخل ذاته يجعل الراوي يقول عن طيبة إنها ‏أروع مدن اليونان، وهو ما حدَث بشكل ما في مرحلة من التاريخ، كما نلحظ ‏الدمج الذي يمارسه الكاتب في الأزمنة، وكيف ربَط شرايين الماضي وأوردته ‏بالشعيرات الدموية للحاضر، بالرغم من أن القارئ قد يشعر – في بعض ‏المواضع من السرد، وحبْكة الرواية – أن الربْط يتضمَّن بعض التكلُّف.‏
وفي حِسٍّ سياسي رصديٍّ لا يفوِّت الكاتب الإشارة إلى البطانة التي تحيط بالمَلِك، ‏وخطورة أدوارهم، إما في صلاح الحُكم وعدْله، أو في فساده وتسلُّطه؛ حيث تأتي ‏شخصيتا (توبياس)؛ رئيس مجلس الشيوخ، و(كريون)؛ قائد الجيوش وأخو ‏‏(جوكاستا)، لتجسِّد بحْثهما عن مصالحهما ورغبتهما في الاستحواذ على حُكم ‏طيبة.‏
وفي إشارة للكيفية التي تُصنع بها هالة للحكام، تضعهم في إهاب الآلهة أو ‏أنصاف الآلهة؛ يفكِّك الكاتب تلك الحكايات، التي تُنسج حول بطولاتهم على لسان ‏أوديب المَلِك ذاته، فيكشف قدْر الأوهام، وفِعل الخيال الجمعي وأثَرَه على نسْج ‏الحكايات التي تُؤسِّس لتسلُّطهم وشعورهم بالاختلاف والتفوق على الآخَرين، يقول ‏أوديب لبنتَيه: “فلتعلما يا ابنتَي أنني لم أقتل وحوشًا، تلك قصة اخترعها الناس، ‏كما اخترعوا قصة الوحش الرابض على أبواب المدينة. لقد جئت إلى طيبة بعد ‏سنين قضيتها في الغربة، فدخلتها دون عناء؛ فهي بلدي ومسقط رأسي…، لم ‏أقابل إلا بضعة جنود بؤساء، ما إن رأَوْني؛ حتى هجموا عليَّ بعد أن أصدر لهم ‏قائدهم أمرًا بقتلي، فتصديت لهم وحدي، وقتلت قائدهم؛ ففروا من أمامي.”(61)‏
الغريب في الأمر أن ابنتَيه وزوجتَه لم ترُقْهن هذه القصة العادية، وطالبنه بالقصة ‏التي ردَّدها الناس، ورُويت لهم في المدرسة، فالبطولة الفائقة والمبالغة في تصوير ‏القوة تُلهب حِسَّ الجماهير، وتُرضي تعطُّشَهم للأحداث الخارقة والغرائبية.‏
يعلِّق أوديب على رفْض زوجته لحكايته، فيقول: “لستُ مريضًا يا جوكاستا، ولا ‏أهذي. أنتم الذين كنتم تهذون. أما أنا فقد شُفيت اليوم من تلك الأكذوبة المريضة ‏التي خلعتموها عليَّ.” (63)‏
نقطتان وددت الإشارة إليهما؛ أولهما: بنْية شخصية أوديب، التي نجَح الكاتب في ‏جعْلها أقرب للبشر العاديين، بنوازعهم كافة، بخيرهم وشرورهم، هؤلاء الذين ‏بإمكانهم مراجعة ذواتهم وإعلائهم للقيم، كراهتهم للكذب وادِّعاء البطولات، كما ‏أنهم يدركون مثالب الحُكم، وكيف أنه يُحرم صاحبه من حياة إنسانية طبيعية مع ‏اُسرهم، حياة بلا صراعات، كما حدَث مع أوديب. ‏
ثانيًا: يظَل الحكام – في نهاية الأمر، وبدون القوَى أو المؤسسات التي تقف ‏وراءهم – أفرادًا عاديين، يسقطون بسهولة حال تخلَّى ظهيرهم، أي قوتهم التي ‏يستندون إلى دعمها، الحكام بذواتهم كائنات هَشة أمام طوفان الجموع ورفْضهم، ‏فقط العدل والرخاء والحريات والقوة أهم ما يجذب الشعوب؛ لتصبح هي الظهير ‏الحقيقي للحاكم.‏
تتبدى لغة النَّص جيدة، وإن مالت إلى اللغة التقريرية نسبيًّا، وشَابَها في بعض ‏المناطق قدْرٌ من الخطابية؛ كقول الراوي وهو يبني تصورات المتلقي عن “بترو”: ‏‏”كان مهتمًّا بالحرية، التي كان يجدها غائبة في المجتمع. كان مهمومًا بحق ‏المواطن في الحياة الكريمة، فهو فنان سينمائي، لكنه كان مهتمًّا بالشأن العام. ‏كان يرى أن الفنان الحقيقيَّ لا يجب أن ينفصل عن قضايا المجتمع، لذا كان ‏يؤمن بأن من واجبه أن يدافع عن حرية المُواطِن في مواجهة نظام أوديب ‏المتسلط، فالحريات في رأيه كانت هي مقياس تقدُّم المجتمع، وعليه أن يناضل ‏من أجْل حصول المُواطِن على حريته.” (26)‏
كما يتضمن النَّص بعض المناطق الحوارية، لطبيعة الصراع وسرعة إيقاع النَّص، ‏واختلاف وجهات نظَر أطراف الصراع للأمور، والتساؤلات التى تُطرح دون ‏إجابات يقينية، ولقد تضمَّن النَّص أيضًا مستوًى أرهفَ في اللغة؛ حين كتبت ‏هيباتيا رسالة لبترو، وهو مختفٍ قسريًّا، ولا أحد يعرف عنه شيئًا أثناء أحداث ‏الثورة.‏
ولقد بدا العجوز “تيريسياس” – في أحد أشكال تأويله – الصوتَ النافذ في ‏التاريخ، صوت الرواة الذين يقُصون الحكايات، ذاكرة الأوطان الجمعية وأحد ‏أعمدة السرد التي تراكمها الشعوب، حيث الكلمة الحرة الصادقة، التي ليس ‏بإمكانها أن تصمت، وهو ما تجسَّد في انطلاق صوته ليحكي للجماهير، ويشير ‏لسبب اللعنة وتفشِّي الطاعون، والقضاء على الأخضر واليابس، ثم مواجهته ‏للمَلِك أوديب.‏
يذكِّرنا النَّص السردي، ويستحضر – بطريقته الفنتازية في صياغة المَشاهد – ‏لقطاتٍ كثيرةً طالعناها منذ ثورة 2011 في مصر، مثل رفْض أوديب مغادرة ‏طيبة، أو مغادرة الطائرة حيث مكان محبسه، وشعوره حتى اللحظات الأخيرة ‏بالبطولات التي قدَّمها لطيبة. ولعل المتابع للنصوص الدرامية الروائية والمسرحية ‏للأستاذ محمد سلماوي يلحظ الحضور الأبرز للحس السياسي في جل كتاباته، ‏وهو مايهب نصوصه طابعا خاصا فكريا وفنيا. ‏

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net
موقع الرسالة العربية