بقلم الأستاذة الدكتورة / إلهام حمدان
عبقرية الأنغام ..وصفحات خالدة في كتاب التاريخ!
رحل الشيخ السيد درويش عن عالمنا؛ وهو لايعلم بعبقريته في عالم الأوتار والموسيقا والأنغام؛ كما رحل الشاعر الفرنسي/رامبو ( الذي توقف عن كتابة الشعر في سن 18 سنة؛ وللغرابة أن يهاجر إلى جنوب إفريقيا للتجارة في الرقيق الأبيض .. والعبيد )؛ وهو لايعلم أنه قد أحدث انقلابًا في عالم اللغة الفرنسية ؛ بل .. في عالم الشعر المكتوب بحروفها ولهجتها !
وإذا كان من المعروف أن اللغة العربية تحتوي على ثمانية وعشرين حرفًا؛ وحروف لغة الموسيقا تنعم بثمانية حركات إيقاعية : دو/ري/مي/فا/صول/لا/سي /دووو؛ وآلة العود ـ مثلًا ـ تحتضن خمسة اوتار؛ ولكن الكاتب أوالشاعر الذي يتعامل مع اللغة العربية؛ يستطيع دائمًا ـ كما يقولون ـ أن يبحث عن الحرف التاسع والعشرين؛ وليُطلق طيور خيالاته بأجنحتها في الآفاق البعيدة؛ ليبحث عن المجاز والصورة المُبهرة التي يهتز لها؛ قبل أن تقع عليها عيون القاريء المُتلقي؛ كذلك يستطيع الموسيقي العبقري ان ( يستولد ) النغم من خلال مداعبة أوتاره؛ وليبحث عن “الجملة الموسيقية ” الجديدة التي يهتز لها المستمع طربًا وانتشاءً؛ كما فعل “بيتهوفن” ـ الأصنج ـ في مقدمة سيمفونيته ” ضربات القدر ” !
كذلك فعل السيد درويش في التعامل مع الأوتار بالأحاسيس المُرهفة .. ليُجبرنا في الثلث الأول من القرن الثاني والعشرين على التحدث عن عبقريته الفذة؛ والقناعة بأنه مازال يعيش بيننا؛ ولندخل في عمل المقارنات بين ما نحن فيه الآن من صخب وضجيج وطنطنات “عجين الفلاحة” ؛ وبين ماكانت عليه موسيقاه وأنغامه في عصره !
إن السيد درويش لم يكن وليد الصدفة؛ ولكنه كان وليد المناخ السياسي والاحتماعي ـ والاقتصادي على وجه الخصوص ـ عندما انشد :
صَبَح الصباح .. فتاح ياعليم
و الجيب .. مافيهشي ولا مليم !
.. إنه النغم الصادر من اوجاع الجوع والفقر والمرض؛ والشعور بالقهر تحت تأثير الاحتلال وسلطة القصر ! كما انشد :
شِد الحزام على وسطك .. غيرُه مايفيدك !
وكأنه يدعو إلى التقشف لتوفير المال لشراء السلاح والعتاد للفدائيين الذين يربضون لمقاومة الاحتلال البغيض .. على شاطيء القنال .. وفي معسكرات وسط البلد بقصر النيل !
إن السيد درويش في تركيبته كان وطنيًا عظيمًا؛ وشعلة متوهجة انطفات سريعًا؛ بعدما ترك في كل ركنٍ من اركان الوطن دائرة مضيئة بالنغم الأصيل؛ وعلى الخصوص النغم التحريضي الذي يحض على التمرد على قهر الاحتلال .. وضرورة الثورة على قهر السلطة !
وأتوقف هُنا قليلاً .. فالشيء بالشيء يُذكر؛ فقد كان موسيقيًا أثيرًا لدى والدي ـ رحمه الله ـ الموسيقار سيف الدولة حمدان أستاذ البيانو والغناء المسرحي العربي بالمعهد العالي للموسيقا العربية بأكاديمية الفنون الذي تناول أعماله المسرحية الغنائية؛ فوضع صياغة لها على آلة البيانو؛ وكان يعتمدها كمقرر لمادة الغناء المسرحي بقسم الغناء بالمعهد؛ ولعلي أذكر ـ أيضًا ـ تسجيلاته الصوتية؛ وهو يردد ألحان “درويش” بمصاحبة البيانو؛ ليحتفظ بها توثيقًا مع ” النوت الموسيقية” التي كتبها بنفسه بالصياغة الجديدة؛ مع احتفاظه باللحن الاصلي كما وضعه درويش . لقد اسس والدي ـ رحمه الله ـ جيلاً من تلامذته؛ تخصصوا في مجال المسرح الغنائي؛ تلك المادة الصعبة تدريسا وغناءً وعزفًا على خشبة المسرح .
وكان لزامًا للتوثيق والتأريخ ؛ ان ابدأ بتلك المقدمة للتعريف بمن هو هذا الفنان؛ ولسهولة الدخول إلى عالمه؛ هذا الفنان الذي لُقٍّب بـ ” فنان الشعب” والمكنَّى في أوراق الثبوتية الحياتية بـ “السيد درويش البحر”؛ والذي تقول صفحات التاريخ عنه ان مسقط رأسه بمدينة الإسكندرية في 17 مارس 1892؛ ولم يكد يبلغ عامه الواحد بعد الثلاثين .. حتى توفي في 10 سبتمبر 1923؛ ولكنه في تلك الحياة القصيرة؛ استطاع أن يتربع على عرش قلوب المصريين بأنغامه التي ابدعها من خلال أطياف بنات أفكاره .
ويبدو أن قرون الاستشعار في داخله كانت ترسل إلى حواسه وخواطره برقيات التحذير بأن مسيرته في دروب الحياة قصيرة؛ فكان يصارع الزمن والظروف؛ فيدخل إلى عالم الزوجية “بدري/بدري” وهو يضع خطواته على اعتاب سن الـ 16 عامًا؛ وربما كانت هذه الخطوة لمحاولة التحكم في مشاعره المتوهجة المتعطشة إلى الحُب؛ ولكنه في خطواته الأولى في عالم الحب والرومانسية ؛ يقابل بالجحود والحرمان ـ ربما لعدم اكتمال نضوج التجربة الحياتية ـ ليتقلب في دروب الحياة من عامل بسيط في المخابز .. إلى العمل مع “الفواعلية” في مجال البناء وفن المعمار .
ولم يكُن عمله المضني وسط “طايفة المعمار”؛ إلا مجرد توجيهًا قدريًا ليكون سببًا في اكتشاف قدراته وتفجير طاقاته الفنية والإبداعية؛ فالرجل لم يدر أنه بتلك البداية الشاقة؛ كان يضع حجر الأساس في بنيان صرح حياته الخالدة ! وعن تلك الإرهاصات الفنية .. تقول صفحات التاريخ ـ بتصرف ـ انه كان خلال ساعات العمل يرفع صوته بالغناء؛ مثيرًا إعجاب العمال وأصحاب العمل، ومن حسن حظه .. تصادف وجود الأخوين “أمين وسليم عطا الله” وهما من أشهر المشتغلين بالفن في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل به؛ فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل من قدرة وجمال؛ فاتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في نهاية عام 1908.
ولكن العوائد المادية لم تكف احتياجاته الشخصية والأسرية؛ فكان قراره الجريء المُغامر بأن يعود إلى بلاد الشام عام 1912 ليظل هناك حتى عام 1914؛ حيث أتقن أصول العزف على آلة العود وكتابة النوتة الموسيقية؛ فبدأت موهبته الموسيقية تتفجر؛ وليعلن التمرد على القوالب الغنائية القديمة؛ ليقوم بتلحين أول أدواره ” يا فؤادي ليه بتعشق” في عام 1917؛ ويدفعه نجاح هذا اللحن؛ فينتقل إلى القاهرة عاصمة الفن والفنون؛ ليسطع نجمه في سماء المقاهي والمسارح بإنتاجه الغزير، فقام بالتلحين لكافة الفرق المسرحية في شارع عماد الدين .. أمثال فرقة نجيب الريحاني/ جورج أبيض /علي الكسار، حتى قامت ثورة 1919؛ ليدفعه الإلهام الثوري باللحن الرائع النابع من فورة الحماسة والتأجيج لجذوة المشاعر الوطنية : قوم يا مصري .. مصر دايمًا بتناديك !
والحديث يطول ويتفرع ويتشعب في مجالات شتى عن هذا الفنان؛ فهو الذي تقلب وتعذب بين أحاسيسه ومشاعره الذاتية ـ كإنسان ـ في الحب والعشق والغرام .. وبين رهافة مشاعره في الوازع الوطني؛ فوقائع التاريخ تتحدث كثيرًا عن مغامراته العاطفية واتهامه بالخضوع لضغوط عالم النساء وسحابات الدخان الأزرق؛ وقرقعة الكؤوس المترعات في علب الليل في الشوارع الخلفية داخل حوانيت بلاد الشام .. والإسكندرية .. والقاهرة !
ولكن مايعنينا هو محاولة الإجابة عن هذا السؤال المُلح والحتمي: لماذا ظهرت عبقرية سيد درويش ؟
لقد أدخل درويش في عالم الموسيقى للمرة الأولى في مصر؛ مايسمى بـ “الغناء البوليفوني” في أوبريت ” العشرة الطيبة” وأوبريت “شهرزاد” و”الباروكة” .
واسمحوا لي أن اتوقف هُنيهًةً ــ لتعريف القاريء والمتلقي ــ وأن أترك مساحة للسادة المتخصصين في علوم الموسيقا؛ للحديث عن ماهو “الغناء البوليفوني” ؟
” البوليفونية في الموسيقا، يقصد بها : أي موسيقا تصدر نغمتان أو أكثر في الوقت نفسه ( المصطلح مشتق من اللغة اليونانية “الذي يعني اصوات كثيرة” )؛ و كل فاصل من نغمتين في الوقت نفسه أو تآلف من 3 نغمات في الوقت نفسه ليكون البوليفونية. لكن عادة ترتبط البوليفونية بالكونترابنط، وهو مجموعة من الخطوط اللحنية المنفصلة في الموسيقا البوليفونية، و نرى خطين للحنين متزامنين أو أكثر على أنهما مستقلين رغم اتصالهما . وفي الموسيقا الغربية تشمل البوليفونية الفصل بين اللحن والباص؛ ليكون البناء بوليفونيا بحتا، حين يتم التمييز بين الخطوط الموسيقية إيقاعيًا. وهناك قسم فرعي من البوليفونية يعرف بالهوموفوني يوجد في أكثر صوره نقاء حين تتحرك الأصوات كلها أو أجزاء منها في الإيقاع ذاته . والبوليفونية نقيض المنوفونية ( أي الصوت الواحد مثلما في الترتيل ) وهو سمة بارزة تميز بين الموسيقا الغربية وموسيقا كل الحضارات الأخرى ” .
ولنا ان نشير ـ بتصرف ـ إلى بعض الحكايات والروايات التي وردت على لسان العاشقين لهذا اللون الجديد من الطرب في عصره ؛ وكانت ضمن اسباب تفجير طاقة العبقرية والنبوغ في الحانه لأغنياته ــ أعتقد اعتقادًا جازمًا بأن بتلك الروايات بعض المبالغة؛ ولكنه الحب الذي يصنع من البوصة عروسة ــ وتفاصيل الحدوتة تقول :
أن الشيخ درويش ــ والعهدة على الرواه ــ وقع في غرام سيدتين ـ في آنٍ واحد ـ وهن : السيدة/رضوان ـ اسمها كدة؛ والأخرى تدعى السيدة/ فردوس ـ برضه اسمها كدة !
فقد قام بتلحين أجمل أغانيه في تلك المناسبة الغرامية؛ وكانت الأغنية من مقام “حجاز كار” وقصة هذه الأغنية أنه بينما كان يعمل مغنيا على مسارح الإسكندرية يعلق قلبه بحُب هاتين السيدتين؛ وكان إذا تخاصم مع الأولى.. ذهب إلى الثانية؛ ولكن صادفه سوء الحظ وقلة البخت؛ حين هجرته الاثنتان معًا؛ وبات مدة من الزمن يقاسي ألم الهجران والتباعد؛ وفي لحظة فارقة من الزمن قفزت غلى خياله ” فردوس ” فقصد بيتها طالبًا الصفح والسماح؛ ولكنها أبت استقباله لعلاقته مع منافستها “رضوان” فأقسم لها الشيخ السيد إيمانا مغلظة بأنها صاحبة المقام الأول في قلبه وجوارحه؛ ولكن فردوس أرادت البرهان بأن يغنيها أغنية لم يسبق أن قالها أحد قبله .. فأنشدها في الحال : “يا ناس أنا مت في حبي وجم الملائكة يحاسبوني
حدِّش كده قال” ! وانتهت الأغنية بالبيت الأخير الذي كان له شفيعًا في دخول بيت فردوس فقال:
قالوا لي أهو جنة “رضوان”
………….. واخترت أنا جنة ” فردوس” !.
وعلى هذا المنوال .. اشتهر اسم السيد درويش وذاعت أغانيه حتى وصل إلى مسامع رائد المسرح الغنائي المصري سلامة حجازي الذي حرص على زيارته في الإسكندرية والاستماع إليه شخصيا عام 1914؛ وأبدى إعجابه بأسلوبه في التلحين وتنبأ له بمستقبل كبير ثم عرض عليه الانتقال إلى العاصمة القاهرة للعمل معه،؛ وفعلا ترك الإسكندرية واستمع جمهور القاهرة إليه لأول مرة مطربًا بين الفصول المسرحية؛ لكن الجمهور الذي تعود على صوت سلامة حجازي كان استقباله فاترًا للمطرب الجديد مما جعل الشيخ سلامة يخاطب الجمهور دفاعا عنه قائلا: هذا الفنان هو عبقري المستقبل لكن الشيخ درويش يقرر أن ينهي المهمة ويعود إلى مدينته في اليوم التالي .
في عام 1917 يعود سلامة حجازي إلى درويش بعرض أقوى وطلب منه تلحين رواية كاملة لفرقة جورج أبيض هي فيروز شاه، وعنها انتبه الجمهور، وكذلك الفرق الأخرى إلى أن فنّاً جديدًا قد أتى وأن الألحان أثمن من الرواية نفسها، وحرصت معظم الفرق على اجتذاب سيد درويش لتلحين رواياتها ثم أصبح في سنوات معدودة الملحن الأول في مصر متفوقا بذلك على الملحنين المخضرمين مثل كامل الخلعي وداود حسني وغيرهم .
وبتقليب صفحات التاريخ صادفني هذا الخبر : ” إن أول حفلة أقامها الشيخ السيد في القاهرة كانت في مقهى الكونكورديا وحضر هذه الحفلة أكثر فناني القاهرة منهم الممثلون والمطربون؛ حتى وصل عدد الفنانين المستمعين أكثر من عدد الجمهور المستمع ! وفي هذه الحفلة قدم سيد درويش دوره الخالد الذي أعده خصيصا لهذه الحفلة “الحبيب للهجر مايل” من مقام السازكار وهو اللحن الذي فيه خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية الآهات التي ترددها الجوقة وكانت غريبة على السمع المألوف ولذا انسحب أكثر الحاضرين لأنهم اعتقدوا أن هذه الموسيقى كافرة وأجنبية وان خطر الفن الجديد أخذ يهدد الفن العربي الأصيل وبالطبع إن فئة الفنانين المستمعين لم ينسحبوا لأنهم أدركوا عظمة الفن الجديد الذي أعده الشيخ سيد لمستقبل الغناء العربي ” !
وعن ألحان درويش يقول موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب : “كانت تنطوي على شيء لم تعتده أذناي أو تعهده روحي من قبل.. كانت فيها ثروة القديم، وجمال الجديد، ومع هذا وذاك دقة الانسجام”؛ هذا بالرغم من أن العلاقة بين العملاقين سيد درويش ومحمد عبدالوهاب، لم تدم فترة طويلة، نظرًا للوفاة المفاجأة لدرويش التي أنهت مسيرته الفنية سريعا، إلا أن التأثير الذي تركه سيد درويش في نفس وألحان وموهبة عبدالوهاب كان واضحا ومؤثرا باعتراف عبدالوهاب نفسه.
فقد كان عبدالوهاب يرى أن ظهور درويش في الحياة الفنية المصرية في مطلع القرن الماضي، كان له تأثير في حياة مصر والموسيقا الشرقية بوجه عام، حيث أعطى للثورة المصرية دمًا جديدًا حارا سرى في عروقها .
وبرغم ماتناولته عنه هنا فما هو إلا مجرد نبذة مختصرة عن عبقرية هذا الفنان المتفرد خالد الذكر ؛ الذي تحدى الظروف والواقع من حوله؛ ليكون مطرب الثورة المصرية؛ وليختطف صفحات خالدة في كتاب التاريخ .
_______
أستاذ اللغويات والتأليف والكتابة الإبداعية بأكاديمية الفنون ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي الأسبق وعضو اتحاد كتاب مصر.
#دإلهام_حمدان