بقلم دكتورة / أماني فؤاد
- ماذا بعد تِسْع عشرة رواية تاريخية؟!
تكاثرَت سحب رمادية كبيرة، وحلَّقت فوق البحر المضطرب، وفى لحظة قفزت تسْع عشرة رواية تاريخية، محلِّقة هى الأخرى، النصوص التى قرأتها على مدار شهر ونصْف تقريبًا، وتساءلت مرَّات وأنا أقرأ: لماذا يظَل الحاضر ينظر إلى الوراء، يستدعى الماضى البعيد، وتُراه عن ماذا يبحث؟
انتبهت لوهلة، هل السماء التى أمامى هى سماء هذا الوجود، الواقع الذى أعيشه، أم سمائى التى تجمعت فيها حكايات بعض التاريخ وشخصياته؟
يقول (هايدجر) فى كتابه «تجربة الفكر»: «يظَل الأقدم فى كل ما هو قديم يلاحقنا، ولا بد أن يدركنا». لأتساءل هل هو الذى يلاحقنا، أم أن نوازعنا وأفكارنا فى الحاضر، والسرديات- التى يكتبها الروائيون- هى التى تمد أياديها فى السنوات الماضية، فى التاريخ البعيد، والقريب، وتستحضره.
حيث التجربة الإنسانية شديدة التشابه، مهما تفاوتت المراحل التاريخية، المشترَك البشرى هو الذى يسحب من بعض التاريخ وسردياته، يبحث عن حيوات أُناسه الذين عبَروا، تُعيد البشرية والحاضر الإنسانيُّ الماضيَ إلى الحاضر بشكل ما. فالتاريخ لا يُعيد نفسه؛ بل التجربة الجمعية الإنسانية، بكل ما فيها من خير وشَر، بأنواع الصراع كافة، هى التى تُعيد التاريخَ والصراعاتِ ذاتَها.
فى السرديات- التى اقتربت من العشرين- تتكرر ملامح أساسية فى أشكال الصراع الإنسانى فى هذا الوجود، تتكرر أيضًا بعض المقومات والمعايير التى يتناوَل بها الإنسان الحياة، وكيف يفسرها، سواء فى الحضارات العالمية أو العربية. مثل:
– منذ نشأَت المجموعاتُ البشرية؛ وُجدت مباشرة الصراعات على مساحات من الأرض بين القوَى المختلفة، والقوَى الدولية لاحقًا، هذه الصراعات لم تهدأ منذ عرَف الإنسان أشكال تدوين أيامه وسنواته ووقائعه، الصراع على مساحات أكبر من الأرض، ثم تطوَّر هذا لمفهوم الأوطان والدول، تعددت أسباب الاستحواذ، فكانت للمكان الجغرافى الاستراتيجى، أو للدول ذات الثروات الطبيعية المُهمة، أو الدول البدائية التى تملك أياديَ عاملة.
وذلك لاستعباد هؤلاء الأفراد بأشكال صريحة أو مقنَّنة، أو الطمع فى الدول ذات الحضارات العريقة بما تكتنزه من معارف وأسرار، ودائمًا ما كان الأفراد من البشر، الذين لا حول لهم ولا قوة، البشر العاديين، وقود تلك الصراعات والحروب والمعارك والنزاعات، وعادة ما تأخذ هذه الصراعات إما الغطاء الاقتصادى أو الدينى أو القومى.
– الصراع بين الأفراد على النفوذ والحُكم والتملك، على الزعامات الفردية ورغبات السيادة والثراء والاحتكار.
– الصراع على مِلكية المرأة، باعتبار المرأة منتقَصة الحريات بشكل ما فى الوعى الجمعى، وضمن ممتلكات الرجُل فى الثقافة الذكورية.
ـ تتبدى بكثرة فى السرديات التاريخية الخيانات، الإنسان: رجُل وامرأة مشروع خيانة دائم. الخيانات على أشكالها كافة، فعلى سبيل المثال: كل مَن كان فى المرتبة الثانية فى الحُكم بعد المَلك أو الأمير أو الرئيس عادة ما يبقى فى الظل طيلة قبْض القيادة العليا على القوة، ينمو الحقد من صاحب الظل على الأعلى؛ لشعوره أنه العقل الذى يشير، واليد التى تفعل وتنفِّذ، وحين تأتى الفرصة؛ ينقَض مباشرة تحت تأثير شعوره بالاستحقاق، وأنه الأوْلَى.
– كما تفصح بعض السرديات عن مشاعر الوطنية والبطولات، التى يبذلها الأفراد للذود عن الأرض التى تحتويهم كجماعات بشرية.
– ونادرًا ما وُجدت النصوص الروائية، التى تطرح رؤى أخرى غير ما كَتَبه المؤرخون التابعون لأيدولوجيا المنتصرين، تغيب إلى حد كبير المجموعات أو الفِرق التى شكَّلت الهوامش التى تنشأ بجوار المتن المؤسسى، حيث معظم السرديات تناقش وتبرِّر لما حدَث بالفعل، كيفما وصَلها، وتبحث عن الطرُق التى تمجِّده، وتأتى بعض السرديات القليلة لتوقظ ما تم التعتيم عليه عمْدًا، وتلك مناطق شاسعة فى التاريخ البشرى، لكن عادةً يتم طمْسها، ويُتعمد إسقاطها من الذاكرة العامة للجموع.
– لم أقرأ نَصًّا واحدًا فى تلك السرديات التاريخية حول سفرة جريئة فى الخيال الروائى، ذلك باستخدام تيار- فى الكتابة الروائية- يفترض سؤال «ماذا لو..؟»، مثل ماذا لو لم تقَع الحروب الصليبية التى حكمت العلاقة بين الشرق والغرب فى التاريخ؟.
– فى السرديات التاريخية نكتشف أن التاريخ ليس تعاقُبًا لعصور، أو أن أفكارًا تُستحدَث، ومن ثم تموت الأفكار السابقة عليها، بل هو اقتراب واستدعاء لأحداث وشخصيات وأفكار كانت قد عاشت، هذه الأفكار والأحداث والصراعات تُعاد دومًا فى الثقافة البشرية.
لنكتشف أن التجارب الإنسانية هى التى تعيد وقائع التاريخ، ومن ثم يصبح الحاضر هو الذى يتطلَّع للماضى، يريد الحاضر أن يعرف نفْسه، يبحث داخل التاريخ عمَّا يبرِّر به نفسه، طموحات الإنسان ونوازعه وإخفاقاته، يُنقب عمَّا يفسر حاضره، أو يبرِّر بشاعته وكونها أشياء تتكرر، أو ليشير إلى قدْر الخير والمحبة والسلام بداخل الإنسان، يعضِّد وجوده ذاته بخيره وشرِّه، ويبرره ويفسِّره.
– وغالبًا لا يوجَد مفهوم زمنى أحادى المستوى فى أزمنة تلك السرديات؛ بمعنى أن السرد قد يوظِّف الزمن بتكنيك خاص، يبدأ بقصة إطار فى الحاضر الحديث، ثم ما يلبث الحكى أن يستدعى الماضى بأشكال مختلفة، قد يكون بتقنية استخدام الزمن الدائرى، أو الزمن السائر فى خط مستقيم، أو ذلك البناء الزمنى، الذى تبنَّى الحدود الفاصلة بين الماضى والمستقبل واللحظة الحاضرة، النابضة بالحدَث، توجد تلك الأزمنة كلُّها فى سرديات التاريخ، لكنها توجَد مركَّبة بطرُق ما، ودائمًا ما تحمِل معها أبعادًا أخرى، لأزمنة أخرى، تستدعيها الذاكرة البشرية، يستدعى زمن تلك السرديات أزمنةَ الماضى، ليعرضها، ويشير لأحداثها، ويُحدِث تناصًّا مع وقائعها. وفى سرديات أخرى يستدَعى الحلم بأزمنة سلام ومحبة وإمكانية التواصل، أو تطغى أزمنة الصراعات والحروب والشتات والاغتراب والفقد، ولذا تأخذ التقنية الزمنية فى تلك السرديات على عاتقها رصْدَ هذه الفوضى، وأشكال الخوف واليأس، فى صُوَر متعددة، تتدفق السرديات بالتعدد الزمنى فى اللحظة الواحدة، وكأن الزمن ذاتَه طبقاتٌ، التداخل بين الحاضر والماضى والمستقبل، أزمنة الضياع المستمرة، أو البحث عن معنى، عن وجود عادل، ومن ثم تتبدَّد كل أشكال اليقين، وتتعدَّد الأفكار التجريبية لتقنية الزمن فى السرد، فمِن خلالها تطرح عوالم استنكار ورفْض المصائر المؤلمة، التى حدثت فى المنطقة العربية والإسلامية.
تَهَب تقنية الزمان للسرد مساحات لتشكيلات فنيَّة متسِعة، تحتمل غواية التجريب ونزَقه، اللعب الحُر الذى تتسع الحركة فيه؛ ليشمَل الحاضر المعيش بالفعل، أو جذوره السحيقة ومراحلها، وافتراضات مستقبل يُعَد نتاجًا لتراكمات تشبه الطبقات الجيولوجية للتاريخ، أو تجسيد انكسار الزمن ذاته، وتبدُّده دون تحقيق الأحلام، التى تمنَّاها البشر فيه، لذا يعطى الزمن للروائى مساحة ونسيجًا حيويًّا؛ من أجْل التعبير عن رؤاه، عبْر وسائلَ متنوعة، وأدوات وصياغات فنية متعدِّدة، لا تأخذ منحًى واحدًا، بل تتعدَّد الأساليب السردية الفنية فى صياغته، من خلال المفاهيم التى ينطلق منها استيعاب الروائى للزمن، أو التقافز فى ذات المفهوم الزمنى؛ تواشُجًا مع تقنيات السرد مجتمِعة.
وهنا يقفز التساؤل حول معنى التقدم فى الزمن، ومفهوم الزمن الخطى، ليوضح د. عبدالسلام بن عبدالعالى الفكرة فى مقال له بعنوان «هل يعرف تاريخ الأفكار تقدُّمًا؟».
يستبدل الفيلسوف المغربى فكرة التقدم بما ذَكَره غرامشى عن «الصيرورة»، يقول: «الصيرورة مفهوم فلسفى يمكن أن يخلو من دلالة التقدم؛ فكرة الصيرورة تحافظ على كل ما هو واقعى فى فكرة التقدم، أعنى على الحركة، بل الحركة الجدلية ذاتها، وبالتالى على التعمق، ذلك أن التقدم مرتبط بالمفهوم الساذج للتطور».
الماضى ليس أكثر فقرًا من الحاضر كما يفترض مفهوم التقدم. وإنما هو ماضٍ ثريٌّ، لا بما كان له من امتداد فى الحاضر فحسب؛ بل أيضًا بما ظَل ينطوى عليه من أسرار، وما يغلِّفه من كثافة.
وبمعنى آخَر هل التقدم فى الزمن- بما يقدِّم من منجَز جديد فى الأفكار والحكايات- لا يجعلنا ننظر إلى الماضى؟.
مفهوم «الصيرورة» يبعدنا عن كل تاريخ أيديولوجى للحياة الفكرية، وينقذنا من السقوط فى فلسفة للتاريخ تنظر إلى الأفكار كما لو كانت تحقيقًا لكلٍّ يتجاوز التاريخ ذاته. مع الاكتفاء بالصيرورة بدلًا من التقدم الذى يضفى ميزة خاصة للأحدث فى الزمن، يبدو تاريخ الأفكار والسرديات أشبه برأسمال يتزايد ويتراكم عبْر العصور، وهنا يغدو ماضى الفكر غلافًا لحاضره.
دائمًا ما شعرتُ بالربط الوثيق بين تيارات إبداع الفنون المتنوعة والفلسفة، حيث تبدو الفنون التشكيلية، والسرديات، والشِّعر، والموسيقى كأنها الظلال الحية التى تغذِّى التياراتِ الفلسفيةَ بالنبض البشرى، بما يحدث من البشر، كما تبدو أفكار الفلسفة ومقولاتها الهيكل الرئيس الذى تنبنى فوقه وبين خطوطه المجردة حركة البشر، وحركة أفكارهم وحالة الجدل مع مشاعرهم.
ويتكرر- فى التاريخ أيضًا- المناظير التى يفسِّر بها الإنسان الوجود؛ فحتى الآن لم تَزَل الأساطير والخرافات والموروثات الطوطمية والتنجيم واللهاث نحو مساحات السِّحر والميتافيزيقا تسيطر على تلقى الإنسان للحياة، وأحداثها، والبشر المحيطين بالأحداث. لم يزل الدين، والمقارنة بين الرسالات، سواء السماوية أو الأرضية محل اهتمام، بل تستخدمه بعض السرديات بطرق موجهة، لا يزال استبصار الفلسفات والأيديولوجيات هدفًا لدى بعض السرديات، لكن من خلال الشخصيات الإنسانية وتجارب الحياة.
بعد هذه الرحلة مع السرديات التاريخية، لعله من المناسب فكريًّا ونقديًّا أن نعاود السؤال مِرارًا: لماذا يكتب الروائيون السرديات التاريخية، وما المعايير الفنية والفكرية التى تجعل للسردية التاريخية بصمة خاصة؟!.