بقلم دكتور / عمار علي حسن
كتاب النيل
(1)
اهتزت الأرض فرقص الصخر وانكسر حاجز عريض، صنعته أيدي أشرار. انفلت موج كالجبال، وجرف كل شيء: آلات حفر ورفع، وعمالا يرتزقون، وقبلهم أوهام من ظنوا أن بوسعهم منع ما جرت به الطبيعة آلاف السنين. نظر شحاذ يكاد يقتله الجوع والعطش في حارة معزولة إلى السماء، فلم ير سوى الغمام.
(2)
فتحت خزائن المال، فانهمر سلاح من كل مكان، وحملته سفن عملاقة، ثم رفعه رجال أشداء إلى مخازن معتمة، وغلقت عليه أبواب، وقيل لحراسه: إياكم والاقتراب منه على بعد أمتار وقف من يرتدون حللا أنيقة، يشمخون بأنوفهم، ويقولون لكل سارقي الأرض التي يقفون عليها:
ـ لدينا سلاح ليس له عدد.
( 3)
في ساحة عريضة انهمك جند يؤدون تمرينهم. لم يكن واحد منهم يدري في أي يوم يعيش ولا في أي مكان يقف، لكنه بالغ في إظهار براعته في الاستعراض، فنفد جهده، بينما كان أعداء يتقدمون حتى وصلوا إلى أرض التمرين، وأضرموا فيها، نارا وأسالوا دما، لكن العرض لم يتوقف، كي لا تتنكس رايات النصر.
( 4)
الشريد الذي رفع عصاه في وجه من حبسوا عنه الماء، فصار ريقه عصا من فرط الظمأ، اتسع صدره، وطالت ذراعاه فوصلتا إلى منابع بعيدة، حيث يجري السحاب ويهطل المطر. قال لمن كدسوا السلاح في مخازن رطبة: اتركوني أنازلهم. اعتقلوه، وفي سجن مظلم رآهم جالسين على كراسي عالية فوق أرض يابسة.
( 5)
لا يعرف كيف صار الغمام الداكن ناصع البياض، لكنه خاف من عطش وجوع. كان مشردا يمد يده للعابرين، لكنه أدرك مبكرا أن جريان رزقه مربوط بجريان النهر. قالوا له إن الماء يغيض، فصرخ من أعماقه، ونادى من قالوا له:
ـ اطمئن
. لكن حين تقاعسوا، وغلبه خوف، نسيهم، ورفع عصاه في وجه الظمأ.
( 5)
تجول الرجل الجالس فوق الكرسي الكبير في البلدان المحيطة بالجدار العالي السميك الذي يحجب خلفه الخير. وبينما هو يتحدث كانت الدبابات تزمجر، والطائرات تحوم، والجنود يحمحمون.
صاح أهل البلد:
ـ نحن وراءك.
لكنه لم يكن يراهم جيدا، إنما ينظر هناك إلى وجوه حمراء وبيضاء تحت قبعات سوداء، منشغلا بعيون تتوسطها، لعله يجد فيها إشارة.
( 6)
قال قعيد يجلس تحت شمس الضحى إلى جانب جدار متداع:
ـ لو قل الماء سأهزم كساحي، وأرفع نبوتي، وأسرع إلى حيث الينابيع.
تجمع العجائز والمرضى، وسار خلفهم الأطفال والنساء، واتجهوا إلى حيث قال الكسيح.
سألت امرأة:
ـ هل غاب الرجال؟
ردت أخرى:
ـ ترددوا.
وتطعلوا إلى سماء أنارتها ألعاب نارية في عيد النصر.
( 7)
في صيف قائظ توزع محصلون على عدادات المياه، ووقف خفر ري على رؤوس الحقول. كانت عيونهم على الجيوب، ولم تر أجوافا يكاد يقتلها الظمأ، ولا أجسادا يسيح عليها عرق متسخ، ولا عيونا غاضبة مملوءة بالتحدي، ولم يكن بوسع أي من هؤلاء أن يقول للذي أرسله:
ـ من يدفع مرات في سبيل الحماية، لا يمكنه الدفع من أجل البقاء.
( 8)
في مقهى يطل على شمس تنكسر فوق هامات النخيل القصير والعابرين، قال الشاب لصاحبه العجوز:
ـ لا تقلق، الرجال استعدوا، والماء سيجري كما كان.
ضحك، وقال له:
ـ لم أعد أثق إلا في البيان الأول.
وسحب رشفة من الشاي الساخن، وواصل:
ـ يأخذوننا إلى الحافة، وسيطرحون حلا لا يخطر على بال أي أحد في هذا البلد.
( 9)
في ساحة المسجد الحسيني هام الشيخ ناظرا إلى المئذنة العالية، وقال لمريديه:
ـ أرى ماءنا يجري فوق الرمل وتحته، في اتجاه شروق الشمس وهبوب الريح.
نظروا إليه متعجبين، فواصل:
ـ لحى طويلة وأغطية سوداء فوق رؤوس تهتز إلى الخلف والأمام تمتد لتغطس في مائنا وتعود ناظرة إلينا في غضب وشماتة.
( 10)
عاد الجالس فوق الكرسي الكبير إلى شيخه، فقال له:
ـ ابق على ما وجدته.
نظر إليه متعجبا، وسأله:
ـ أشياء كثيرة وجدتها، فما تقصد منها؟
قهقه، حتى اهتزت عمامته، وانفرطت لحيته، وسأله أيضًا:
ـ وهل وجدت أغلى مما صنع كل الممالك التي سبقتك حتى وصلت إليك؟
عندها رأى ماء يجري، وحقولا يانعة، وبنايات يداعبها النسيم.
(11)
في آخر شارع السد، وقبل الميدان الضيق الذي يطل على مسجد السيد زينب راح الدرويش يرفع عينيه من ملابسه المهلهلة المتسخة إلى المدى، ويصرخ ناظرا إلى من لا يراه العابرون، ويخاطبه:
ـ لا يسندك إلا أهلك.
بدا كأنه يسمع منه شيئا، فعاد يقول له وقد تلاشت المسافة بينهما:
ـ هذه فرصتك الأخيرة.
( 12)
حين انقضى عمره، ولكل أجل كتاب، كان أول سؤال ألقوه فوق رأسه في الآخرة:
ـ ماذا فعلت للنيل؟
اتسعت حدقتاه عجبا، فقال له ملاك الخصب:
ـ ألم تر أن ما صنعه الله لا يوقفه إنسان؟
هز رأسه، وأجاب:
ـ نعم.
انهمرت ابتسامات هامت لها روحه، وسمع صوتا عميقا غارقا في الجلال والحكمة:
ـ النيل أول سطر في كتاب الحساب.