بقلم / سهير جوده
تجتاح مصر الآن الموجة الثانية التى تعلن نهاية عصر الأخلاق، فالموجة الأولى بدأت منذ منتصف السبعينات، حيث كان الهدف تحطيم قيمة العلم والعمل، فقيمة البشر لم تعد بمقدار ما يمتلكونه من علم أو سمعة طيبة أو بما يترجمه من تقديس العمل ولكن أصبحت بما يمتلكه ويكتنزه من مال وفهلوة، فالمباهاة بالثروة وتضخمها وشيوع ثقافة محدثى الثروات قادت المجتمع إلى التدهور ولم يعد ما سماه خبراء الاجتماع انقلاب الهرم الاجتماعى انقلاباً فى شرائح المجتمع فقط بقدر ما كان انقلاباً فى القيم واستبدالها منظومة قيم جديدة رديئة بها، أما الموجة الثانية التى تزدهر وتتعملق الآن فهى تعمل على تكسير اليقين فى كل شىء فلا قانون يحاكم ولا قيمة تحترم وتمنح أصحاب لسان الشتائم وأفواه الألفاظ التى تؤذى الأسماع سيادة الموقف فى الواقع وفى الفضاء الإلكترونى وأصحاب العنف اللفظى والتجاوزات المسيئة يعتبرون أن ما ينطقون به ويكتبونه هو الحق وما غيره هو الخطأ، إنهم يقومون بتسفيه المعنى وتكسير القيم فلم تعد هناك ثوابت أخلاقية حتى فى أبسط أشكالها، مثل احترام الكبير وتوقير الآخر حتى ولو كنت على خلاف معه، وخطورة السباب والشتائم والتجاوز بالألفاظ وبالأوصاف الساخرة المسيئة أنها تكسر كل قيمة وكل معنى وتهدر دم القيم والأشخاص على أسفلت الفجاجة والانحطاط، فكل شىء قابل للتشويه والشتائم على المشاع فتضرب المبادئ فى مقتل وتخلق مناخ التشكيك فى قيمة الرقى والأدب والخلق الحسن وتعلى من السفهاء، ولأن القيمة أصبحت مختلة والأدب وعفة اللسان والشرف والسلوك المنضبط خرج ولم يعد وكأن عملة الاحترام لم تعد قابلة للصرف والتداول بينما أصحاب الصوت العالى والغوغائية والسباب ينتزعون الإعجاب والتصفيق وأحياناً المناصب، والموجة الأولى مع الموجة الثانية تؤديان إلى عودة عصور ما قبل الدولة بل وما قبل القبائل، فالقبائل لديها أعرافها وتقاليدها وكل هذا يحدث تحت شعارات براقة مثل حق الحرية والغضب والتمرد، وهو تغريب مقصود وربما يكون هذا الفيروس موجوداً ومنتشراً فى مناطق كثيرة من العالم ولكن المؤكد أن المنطقة العربية موبوءة به، وربما كانت هى الأرض الحاضنة له، والمحفز الأساسى يكمن فى الهوس الدينى والتطرف المفرط فى الجهل وعمليات الإفقار المستمرة سواء كان الإفقار المعرفى والثقافى أو الإفقار الاقتصادى، وبالتالى فهناك تضخم فى الكراهية وفى الجهل بأنواعه يجعل المنطقة العربية على حالها من قتل وحروب وتقسيم وعنف وتكفير واندماج التطرف والإرهاب، وأحدث التجليات التى نتجت عن هذا الاندماج مقتل الكاتب الأردنى ناهض حتر لمجرد أنه أعاد نشر كاريكاتير لفنانة فلسطينية فلم يكتفوا بإهانته فى المحاكم والسجن ومحاكمته ولكن سعار الكراهية والتطرف المتمكن منهم جعلهم لا يكتفون بدور الحكام والحكماء بل قاموا بتنصيب أنفسهم آلهة وإصدار حكم القتل عليه بينما هم من يقوم بفعل الشرك بالله ويمنحون أنفسهم سلطة الله ويقتلون ويسفكون الدماء ويتباهون ويكبرون، هذا الفكر الضال يشيع للتطرف والإرهاب وانتشر فى كل مكان فى العالم وهو أكبر إساءة للسلام والإنسانية، ومن يحمل السلاح للتصفية الجسدية لما يراه مختلفاً عنه أو كافراً بدينه يتساوى معه من يحمل سلاح الكلمة الخبيثة والمسيئة لاغتيال الآخرين معنوياً، ويواصل بلا عقل وبلا مكسب عمليات القتل غير الرحيم بلا توقف وكأن الشتائم المتجاوزة هى تحية الصباح والمساء أو البديل العصرى لها، وصدق الشرقاوى حين قال فى مسرحيته الحسين ثائراً: الكلمة فرقان بين نبى وبغى والكلمة نور وبعض الكلمات قبور لقد وصلنا إلى زمن البغى وأغلب الكلمات قبور ومن يعتصم بأخلاقه وبطيب خلقه ونقاء قلبه ولسانه ورقى سلوكه أصبح غريباً، وبالتالى فهو ينوء بنفسه ويبتعد، وأصبحت السلالات الراقية الصحيحة الصالحة عازفة عن المشاركة، وبالتالى تخلو الساحات والمساحات للسفهاء ليحتلوا الصدارة، وأصبح بعض الإعلام المرئى وأغلب الإعلام الإلكترونى حصالة تجمع النفايات الاجتماعية، فالفراغ العقلى والحياتى والفشل المعنوى والفشل الواقعى هى وقود الكراهية الذى ينتج كل هذا الكم من القبح والتطرف والعنف والإرهاب بكافة أشكاله، فالنفوس تنضح بمقدار الحقد والغل فيها وأغلب سلالة الفصائل التى تتجاوز فى التطرف وفى الإرهاب بالكلمة والبذاءة والسخرية واعتبار السب والقذف الذميم فضيلة وبطولة أغلب هؤلاء حصلوا على فرص كاملة ولكنهم نجحوا فى الفشل بامتياز فمارسوا الهدم بإسقاط كل قيمة، وتجاوز الكارهون والحاقدون المدى وأصبح للإرهاب وجوه كثيرة قبيحة، وفى ظل هذه الغابة أصبح حقاً أقوى إنجاز ومقدرة للأسوياء هو الاحتفاظ بنقاء وبقاء العقل والقلب والسلوك مع كل هذا الحصار من البغى والتجاوز والحماقة والتطرف والإرهاب.