بقلم / شريف صالح
من يومين كانت الذكرى المئوية الأولى لولادة إحسان عبد القدوس.. والحقيقي مع محبتي العميقة له كنت متردد في الكتابة عنه.. يمكن بسبب قناعة جوايا قديمة أنه “كاتب بتاع البنات” أو بتعبير مهذب أكتر أنه كتابته مش هاضيف لي شيء عن اللي شوفته في أفلامه. فالاعتراف الأول أنه من الكتاب اللي استبعدتهم من جدول قراءتي مبكرًا.. دا لا يمنع أني تأثرت جدا بسيرته كصحفي، وبالسينما اللي عن قصصه.
…………………………..
عادة بيقارن نجيب محفوظ بيوسف إدريس في الموهبة الأدبية.. وبإحسان عبد القدوس في هوس السينما بأعمالهم هم الاتنين.. بس البوست دا اللي فريد من نوعه 🤣😂هاعمل فيه مقارنة ما تعملتش قبل كدا على حد علمي
………………………
1. نجيب وإحسان كاتبين مدينيين بامتياز، على عكس معظم كتاب مصر اللي متورطين في أصولهم الريفية والصعيدية.
2. “نجيب محفوظ” اسم مركب على اسم طبيب النساء والولادة الأشهر.. وأبوه عبد العزيز.. وإحسان “محمد عبد القدوس” كل دا اسم مركب لأن جده الشيخ أحمد رضوان الرجل الأزهري كان معجب جدا بعازف ناي قبطي اسمه “عبد القدوس” فقرر يسمى ابنه باسم مركب نصه مسلم “محمد” ونصه قبطي” عبد القدوس”. والطريف أنه نجيب محفوظ كمان حرم من البعثة لظن الموظف أنه اسمه قبطي!!
3. نجيب لما اتولد كان في فرق كبير جدا بينه وبين أخوته.. وبينه وبين أبويه في السن.. فدا عمل جواه شي من الوحدة والشعور بشبه اليتم.. وإحسان قبل ما يتولد كان أبوه طلق أمه ولقى نفسه عايش مع عمته..
4. وبالصدفة القدرية الاتنين لقوا نفسهم في نفس الحي.. وإن لم يلتقوا.. لأن أسرة نجيب انتقلت به وهو طفل لحي العباسية.. وجد إحسان رفض بقاؤه مع أمه “الممثلة” في شارع عماد الدين.. فأخده في رعايته ورعاية عمته نعمات هانم رضوان في حي العباسية.. وهو نفس الحي اللي عاش فيه الاتنين تجربة “الحب الأول” واللي اتسرب كتير جدا في نصوصهم.
5. والاتنين كانوا مدينين للمرأة بدرجة واضحة جدا في تكوينهم.. إحسان لعمته في البداية ثم لأمه.. ونجيب لأمه.. وكانت المرأة مصدر حنان غير طبيعي لهم..
6. نجيب اتولد سنة 1911 واتفتح وعيه على مشهد الشعب المصري وهو في الشارع إبان ثورة 19 العظيمة.. ودا المشهد الرئيسي جدا في دراما حياته وفي كل إبداعه.. المشهد الكامن وراء سطور كل أدبه.. وإحسان اتولد في يناير 1919 في لحظة الثورة نفسها.. هو نطفة من نار وغضب الثورة نفسها.
7. دا عمل فرق مهم جدا في شخصية الاتنين.. نجيب شاف حزب “الوفد” قائد الثورة.. وفضل متعلق به عاطفيا لحد آخر يوم في عمره.. وبعيون الطفل اللي واقف في الشباك يبص على النساء والشباب الثائرين اتشكل اختياره ك “مراقب للثورة”.. واستمر في نفس الموقع والمسافة حتى مع ثورة ضباط يوليو بعد كدا.. لكن إحسان لقى نفسه في موقع الثوري.. ابن لاتنين من شباب الثورة.. وبدل ما يرتبط عاطفيا بالوفد ارتبط أكتر بفكرة الثورة نفسها.. وأهله ولادته لأبوين من “النخبة” المثقفة أنه يشوف أمراض وكواليس الأحزاب كلها ويكرهها.. ويبشر بثورة آتية.. عشان كدا نجيب معتبرش ثورة يوليو بتاعته واستمر مرتاب فيها (معاه حق🤣😀).. إحسان اعتبرها ثورته.. ولو في كاتب يستحق يبقى له تمثال مع مجلس قيادة الثورة فيبقى إحسان.
8. لكن ع المستوى الفكري عموما هما الاتنين ولاد شعارات ثورة 19 ومافيش أدنى فرق تقريبا في أفكارهم اللي هي بتنزع نحو اللبيرالية والحرية الفردية مع حس اشتراكي واضح بيسعى لتقليل الفجوة بين الطبقات. فالفرق بينهم مش في القيم.. قد ما هو في الممارسة.
9. نجيب قرر من مرحلة مبكرة الابتعاد عن السلطة وأخذ مسافة صارمة منها (يا نحلة لا تقرصيني ولا أنا عاوز منك عسل) وإحسان قرر يشتبك معاها.. فخرج في مظاهرات الطلبة في حادث كوبري عباس الشهير.. وكتب مقال شهير دعا فيه لطرد المندوب السامي البريطاني من مصر فلقى نفسه مقبوض عليه..ومعتقل للمرة الأولى.. وحاولت أمه السيدة العظيمة روز اليوسف تشيل القضية باعتبارها صاحبة المجلة وحفاظا على مستقبل ابنها لكنه رفض بشدة.. فكفأته فور الإفراج عنه بتعيينه رئيس تحرير للمجلة وعمره 26 سنة.. وبعدها بسنوات قليلة فتح ملف “الأسلحة الفاسدة” .. أحد أشهر الملفات في تاريخ الصحافة المصرية والعربية، واللي نتج عنه إقالة وزير الدفاع.. وبفضله ارتبط بضباط يوليو مبكرا جدا ويقال أنهم كانوا بيمدوه بوثائق..ولعب الملف دا دور مهم جدا في تهيئة الأجواء لقيام ثورة يوليو بشكل مباشر. ولحد المرحلة دي أصبح إحسان معروف كويس جدا ككاتب سياسي ورئيس تحرير ونجيب معروف كويس جدا كأديب.
10. وباختلاف أسباب الشهرة والتوجه لقى إحسان نفسه صديق شخصي جدا لقيادات الثورة خصوصا عبد الناصر والسادات.. في حين أنه نجيب كان بيتفرج عليهم من بعيد.. ولما حصل حادث مقتل أمين عثمان الشهير وكان السادات أحد المتهمين في قايمة على رأسها حسين توفيق.. لجأ الشباب اللي عملوا العملية دي ل إحسان عشان يخبي حسين توفيق (المتهم الأول) في بيته.. ورغم أنها مخاطرة تطير فيها رقاب خاضها إحسان.. واتحملت زوجته السيدة الرائعة “لولا المهيلمي” العبء الأكبر في العملية السرية دي.. واللي كتبها إحسان بعد كدا في روايته الشهيرة “في بيتنا رجل”. والسادات نفسه اشتغل فترة في “روز اليوسف” وكان رئيسه وصديقه إحسان..
11. بس أثبت نجيب محفوظ أنه عدم صداقة الحكام الجدد أعظم مليون مرة من صداقتهم.. في حين دفع إحسان تمن فادح للصداقة دي.. ففي أزمة الإطاحة بمحمد نجيب انحاز إحسان للخيار الثوري الديمقراطي وكتب عن “الجمعية السرية اللي بتدير مصر” ولم يتردد عبد الناصر في دبح القطة بأعز أصدقاء ثورته.. واعتقل إحسان.. نزلت روز اليوسف بثقلها ورمزيتها ووقفت موقف أشجع من مليون رجل.. فقررت ما تنشرش في مجلتها ولا كلمة عن الثورة وضباطها.. وحصلت وسايط طبعا.. ولما طلبوا منها تقابل عبد الناصر وتلتمس الإفراج عن ابنها رفضت وقالت بكبرياء: الصغير هو اللي يروح للكبير.. ونشرت رسالة (موثقة ومشهورة) في مجلتها قدمت فيها أشجع دروس اتقالت لعبد الناصر في مسيرته كلها.. وسرعان ما أفرج عنه عبد الناصر ويقال أنه قال له “اتربيت ولا لسه يا إحسان؟!” وصالحه وبقى يعزمه بشكل شبه يومي كصديقين.. ففوجي أنه إحسان بيقوله “سيادتك” مش “يا جيمي” زي ما كان متعود.. فسأله فين جيمي بتاع زمان؟ قاله خلاص مش هاينفع! ورجع اعتقله مرة تانية وأفرج عنه وقال له أنه عبد الحكيم عامر هو اللي عمل كشوف الاعتقال وأنه ماخدتش باله من الاسم.
الصديق الثاني السادات ماكنش أفضل حالا من عبد الناصر، رغم أنه أكل من خير روز اليوسف وابنها.. بس لما شاف عياله في مظاهرات ما بعد النكسة اتصل عليه وقاله ربي عيالك يا إحسان.. ولما محمد ابنه بقى إخوان واتجوز بنت الشيخ محمد الغزالي اعتقله السادات.. والطريف إنه لما قوات الأمن راحت بيت إحسان عشان تعتقل ابنه لقوا مصطفى خليل رئيس الوزراء نفسه سهران مع إحسان!! ولما اعتقل السادات محمد ابنه مرة تانية والتقى إحسان اتوقع أنه هايستعطفه بقلب الأب.. والسادات أتغاظ أنه مفتحش معاه الموضوع.. فشاكسه فرد عليه إحسان أنه مش مشكلة ابني يتسجن عشان مبادئه زي ما حضرتك اتسجنت ياريس.. وزي ما أنا اتسجنت.
12. اتأذى إحسان كتير روحيا من الثورة اللي حبها واتعشم فيها خير.. واتأذى من أصدقاء الأمس اللي بقوا حكام اليوم.. ودا خلاه يبتعد نسبيا عن الكتابة السياسية ويبدأ يركز أكتر ع الأدب. وإن كان رجعية ضباط يوليو طالته زي ما طالت محفوظ بدرجات كمان.. يعني مثلا كان له برنامج إذاعي بيختمه بجملة “تصبحوا على حب” القيامة قامت وبلغوا عبد الناصر وقالوا له إحسان بيشجع الناس على السكس.. وعبد الناصر قاله يا إحسان خليها تصبحوا على محبة.. فإحسان قعد يشرح له أنه الحب كلمة عظيمة ومش لازم يكون معناها سكس.. ولما عمل روايته البنات والصيف وقدمها عبد الحليم في فيلم.. الدنيا قامت واتهموه بالإباحية والإساءة لبنات البلد وكدا.. ورجع كلم عبد الناصر وقاله أنه القصص اللي بيشوفها ع البلاجات أخطر من كدا بكتير.. ونفس الرجعية دي اشتغلت مع محفوظ بخصوص بعض أفلامه ورواياته كمان. برغم حذره الشديد في أنه لا يواجههم على عكس إحسان اللي لما السادات طلب منه مرة رايه في خطاب له فقاله بصراحة.. فالسادات قاله طيب ما تكتب رأيك دا في الجورنال.. فكتبه بشجاعة.. وبعدها لقى نفسه مفصول من رئاسة الاهرام🤣😂😂!
>>>>>>>>>>>>>>>>>>
