بقلم دكتورة / أماني فؤاد
ونحن بصدد استكمال رواية الأصوات الافتراضية، التى تتحاوَر شخصيَّاتُها حول القضية الفلسطينية، الأكثر صخَبًا فى القرن العشرين، والتى يبدو أنها ستُكْمِل تصدُّرها فى الواحد والعشرين، ارتفع صوتَان، وطَغَيَا على باقى أصوات الشخصيات، قال أحدهما غاضبًا: أين مصر وجيشها؟، أين الحكومات العربية التى تتنافَس على ريادة المنطقة وزعامتها؟، أين سباق التسليح الذى يَتبارَى الجميع فيه؟، ألن تُفتَح مخازن السلاح الذى يشترونه بالمليارات؟، ألن تتحرك جيوش البلاد العربية لإنقاذ الشعب الفلسطينى؟، ألن يُلغَى التطبيع المجانى، الذى لم تتوقف مفاوضاته حتى الآن؟، ألن يقطعوا البترول والغاز عن دول العالَم، التى ساندت إسرائيل ودعَمتها بالأسلحة، تلك الدول التى سخَّرت لها منصَّات الإعلام العالَمى، ووفَّرت لها احتياجاتِها اللوجستيةَ كافة؟، كيف سيقابِل العرب ربَّهم، ومواطِنو غزة يموتون من الجوع والعطش والبرد، يَسكنون الخيام، التى لا تقيهم مطرًا أو بردًا؟، ألن يُغلِقوا السفاراتِ والمكاتبَ اليهودية فى العواصم العربية؟، ألن يوقِفوا الحصار، ويُدخِلوا المساعدات، حتى لو ضربت إسرائيل قوافل الشاحنات؟، لماذا تتعاطف بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل، ولا تهتم لحماس، مَن المسلمون مثلهم، حماس أَمْ إسرائيل؟، هل صار الإسلام غريبًا فى مَهْدِه؟.
ليرتفع صوتٌ آخَرُ قائلًا: أَلَمْ نكتفِ- منذ ما يقرُب من قرْنٍ- بتلك الحناجر، التى تتحدث فقط، دون أن تعِىَ ما بَعد حروفها بخطوة واحدة؛ تنتقِد وكَفَى، بُلِينا- منذ عقود طويلة- بالافتقار لرؤى متعقلة تقدر المواقف بموضوعية وحكمة، أصوات تقوم بخلْط القضايا معًا، سياسية ودينية وإنسانية، بإطلاق الشعارات دون تقدير تَبِعَاتها وآثارها على الشعوب.
من أراضى منطقتنا تلك، وثقافتها، خرَجتْ مجموعتان معوِّقتان من القُوى والتيارات فى المجتمع العربى، إحداهما: جماعات وتيارات الإسلام السياسى، بكل ما فعلوه فى السابق، وحتى الآن، وكل ما ينشرُه ذبابُهم الإلكترونى الآن على المنصَّات الإعلامية، من إلباس الحق بالباطل، والتحريض على القادة والحكومات والدول، والتشكيك فى كل المُنجَزات، وشيطنة وتكفير كل حكَّام الإقليم، إلا القُوى الدولية التى يتكسَّبون منها، وحين تبحث عن تحالُفاتهم؛ فلن تَجِدَها إلا مع الشياطين أنفسهم، قُوى دولية لها أطماعها وأهدافها، التى تريد إضعافَ دول الإقليم، والسيطرة عليها، من خلال وُكلائها. أما المجموعة الأخرى: فهُم شرائح مخوَّخة، من بقايا اليَسار، وليْتَهم يساريِّو الفكر حقًّا، لكنهم مجموعة من الرافضين والمتوجِّسين والكارهين دائمًا، دون أن تكون لهم أىُّ قُدرة على طرْحِ بدائلَ حقيقية، أو تغيير. الرفض والشعارات وشيوع الفوضى طريقٌ ينتهِجُونه دون فِعل يحقِّق تغييرًا على أرض الواقع. وهنا تُلِحُّ على ذِهنى مجموعة من الأسئلة، على محوَرَين، وَددْتُ لو فكَّرتم معى فى إجابات عنها؟
أولًا: أليست حماس هى السُّلطة القائمة على أمور الفلسطينيين فى غزة؟، لماذا المطلوب من مصر أن تقوم على تسهيل وحَلِّ أمور رفَح وغزة وفلسطين، أمْنهم وحمايتهم وصحتهم، وتوفير وسائل معيشتهم وخدماتهم؟.
وأتعجَّب حقًّا من بعض الأصوات، التى تَخرُج من الفلسطينيين، أو بعض الجنسيات العربية الأخرى؛ لتكِيل السبَاب لمصرَ والإمارات والسعودية؛ دول «محور الاعتدال»، حيث يطالِب الفلسطينيون مصرَ بالتدخُّل، وتحريك الجيش؛ لإنقاذ المواطنين فى جنوب غزة ورفَح.
وأندهش، لماذا لا تَخرُج نفْس تلك الأصوات لتُناشِد حماس وفصائلَها أن ترْحَمَ جَوْعَى غزة، ونزوحهم من ديارهم، سكنهم دون سقْفٍ يأويهم، (إلا ما أقامت مصرُ لهم فى رفَح الفلسطينية)؛ فتدعو حماس للخروج من الأنفاق، والإفراج عن الأَسرى، والتفاوض الجاد مع إسرائيل والوسطاء؛ للوصول إلى حلول يتوافَق عليها الجانبَان؛ لوقف إطلاق النار؛ تدعوها هذه الأصوات- بدلًا من انتقادها مصر- إلى الحوار مع باقى الفصائل والمنظَّمات الفلسطينية، والصُّلح معًا، والاتحاد؛ لتتصدَّرَ المشهدَ قوةٌ واحدة فلسطينية، وليس فصائل مشرذَمة.
لا يشْغَل حماس سوى مصير قادة حماس وعناصرها، بعد انتهاء الحرب على غزة؛ لا تفكِّر إلا فى تأمين نفْسها فقط، وليس الغزَّاويين، ألمْ تفكِّر تلك الأصواتُ أنَّ هذا هو الحلُّ الواقعى لإنقاذ حوالَى مليونَى فلسطينى من الموت جوعًا وبردًا وخوفًا، والحد أيضًا من هذه الإبادة الجماعية، التى يمارِسها عَدو، نَزَع من قاموسه أىَّ معنًى إنسانى؟.
لماذا مصر؟، ألمْ تَزَلْ تخاتلكم تصوُّرات الماضى بأنكم ستحارِبون حتى آخِر جندى مصرى؟، لا أعرف بناءً على أىِّ منطق تطالِبون مصر بالحرب نيابة عن قادَتِكم وفصائلكم المختبئين فى الأنفاق!، من أين تأتيكم هذه الأوهام؟، ألمْ تَزَلْ خطابات العقود الماضية تغازِل أذهانَكم، التى لم تَعِ الواقعَ فى نسخته الأحدث، ترصد عقلانية شخصيات قادة الدول الآن، وأولوياتهم، التى ترعى حياة شعوبهم وأمنهم وتنميتهم، دول لها تحفُّظات على هجمة «طوفان الأقصى»، ولا تريد أن تتحمل تبِعَاتِها غيرَ محسوبة النتائج؟
ألَا يعرف المنتقِدون لمصر أنَّ تلك المُطالَباتِ مخالِفةٌ للمعاهدات الدولية، التى أبْرَمتْها الدولة المصرية فى السابق مع إسرائيل؛ معاهدة السلام، التى حقَنَت دماء المصريين، وأوقفت استمرار انهيار الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى مصر، بعد خوْض حروب كثيرة من أجْل الفلسطينيين؟
لينطلِق صوتٌ آخَر، يقول: أكثر ما يُدهِشنى بعض الأصوات المصرية، التى تطالِب الجيش بالتدخُّل، ومخالَفة تعليمات الدولة وقيادتها، تلك الأصوات التى يحرِّكها تعاطُفها مع المواطنين الفلسطينيين العاديين المتضرِّرين، أخَذَتهم الحَمِيَّة لإخوانهم، لكن لم يتساءلوا: لماذا تختبئ حماس تحت الأرض، ويتصدَّى المصريون لإسرائيل، التى ليست بمفردها، بل مدعومة بمَدَد لا يتوقَّف من جيوش تحالُف القُوى الدولية الكبرى؟
يبدو أن خَلَلًا عميقًا قد ترسَّخ طويلًا فى فِكر جمع كبير، فالكثيرون فى أوطاننا، وخاصةً بَعد أن تشرَّبوا- لعقود طويلة- بخطابات عاطفية، سياسية ودينية، مسطَّحة الرؤى، وانطبعت لديهم صورة لعنجهية الزعامة، التى صَدَرَت عن بعض الرؤساء، الذين روَّجوا للَّاءات التى جمَّدت القضيةَ الفلسطينية، صاروا يرفضون الواقع العقلانى، هذه الغطرسة غير المحسوبة هى التى منَعت عن الفلسطينيين فُرصًا سانِحة لإيجاد تفاهُمات، كان من الممكن أن تُسْفِر عن حَلِّ الدولتَين وقْتها، هذا الحل الذى يسعَون إليه اليوم، وأصبح من الصعوبة تحقيقه، بعدما حدَث من طوفان الأقصى، هذه الأصوات مغيَّبة الوعى، لا تعرف معنى الدولة، الدولة هى المجتمع منظَّمًا، تقوده سُلطته الحاكمة، التى تراقِب سُلطاته الثلاث ومؤسَّساته. الدولة أيضًا هى مَن تُمارِس العنف الشرعىَّ، كما يقول «ماكس فيبر»؛ أى إنفاذ الإرادة العامة الممثَّلة فى القانون،
العشوائية، والخروج عن النظام، خروج عن الدولة، وهو ما لن تسمح به القيادة المصرية، التى تَرعى عدم تصفية القضية الفلسطينية، وتَرعى- فى الوقت ذاته- أمْنَ مصر، وألَّا يتسرب- فى أراضيها ثانيةً- لا الفكر الإخوانى، ولا فكر المَلالى، ورغباتهم الاستحواذيةَ، ولا الصراع مع إسرائيل فى دورة جديدة.
تفتقر هذه الأصوات- التى لا تفكر أكثر من مساحة حنجرتها- لأقَلِّ قدْر من الوعى السياسى، حيث إدراك الفرد لواقِع مجتمَعه ومحيطه الإقليمى والدولى، ومعرفة استحالة الإخلال بالعقود الدولية، وألا تتعرض الدول المخالفة لعقوبات دولية، والقُوى الفاعلة والمؤثِّرة فى صناعة القرار وطنيًّا وعالميًّا، وسياسة التوازنات بين الأقطاب الكبرى، ورصْد الأحداث وتحليلها، واستكشاف خلفيَّاتها وأبعادها وآثارها، ما يناسب المرحلة، أو ينِدُّ عن صوت المنطق، وكذلك معرفة مواثيق العصر، وقوانينه وأعرافه، وثقافاته وعلومه؛ أى التمكُّن من أدوات قراءة خطاب الواقع والإلمام بأبْعاده.
يستكمل الصوت تدفُّقه: أليس من المنطقى أن تتلافَى المنطقة العربية الآن- أخطاءَ ومغامراتِ السابقين؛ المقامَرة بحياة مواطنيهم، وتعطيل تنمية بلدانهم؛ فلا ينجرفوا لمعاركَ وحروبٍ تكلِّف المنطقة جميعَها حروبًا على أصعدة شتَّى: سياسية عسكرية، واقتصادية تنموية؟، أليس من الطبيعى أن يكون الوعى السياسىُّ أكثرَ تعقُّلًا، وأنْ تظَل المفاوضات طويلة النفَس الدبلوماسى، مع عدُّو يتجبَّر بما يسانده من قُوى دولية، هى الحل الأقل خسائر، وحِفظ أرواح الفلسطينيين، الذين قُتلوا، وجُرح منهم أكثر من مائة ألف مواطن، هذا عدا الدمار الشامل، كفانا أصواتًا جهورية رعناء، لا تعرف معنى الدول، وأمْنَ البشر، وقيمة الحياة، لا تعرف أهمية وأصولَ التفاوض وأدوار الدبلوماسية، التى تحقِن دماء الشعوب.
لم تُقصِّر مصر- طيلة تاريخها- فى التعامُل مع القضية الفلسطينية، ورغم التحفُّظات الكثيرة المصرية على حماس- عقيدة وطبيعة عمليات- فقد تعامَلت معها؛ تغليبًا لصالح الفلسطينيين. وأعلم- مما أطالعه فى الصحافة العالمية- أن مصر وسيطٌ رئيس، يُسهِّل الكثيرَ من الأمور اللوجستية لحماس، وهو ما تشعُر به إسرائيل، طيلة الوقت، وتعترض عليه، هذا عدا الدور المهم، الذى تمارِسه مصر للضغط على إسرائيل، فى أمور كثيرة. لمصر- بالنسبة للقضية الفلسطينية- تاريخٌ من الثقة والمسؤولية، وهى فوق تقييم أدوارها ممَّن لا يعرفون، ولا يقدِّرون الوضع السياسى العالمى، ويظهر هذا التقديرَ- للدور المصرى- من وفود حماس أنفسهم فى القاهرة؛ حيث يرَون بأعيُنهم كل ما تقوم به الأجهزة المَعْنِية المصرية الاستخباراتية والدبلوماسية، كما رفَضت مصر أىَّ ترحيل أو تصفية لكيان حماس، ودافَعت عن دورها كمقاوَمة مشروعة للدولة الفلسطينية، فالسياسة المصرية أكثر احترافًا وعقلانية، تختار المفاوَضات سبيلًا، والالتزام بقوانين حقوق الإنسان العالَمية.