كتب / رضا اللبان
الظاهر بيبرس هو خامس سلاطين المماليك (حكم بين ١٢٦٠ و١٢٧٧) وإن كان المؤسس الفعلي لدولتهم التي حكمت مصر والشام لأكثر من ٢٥٠ سنة (١٢٥٠-١٥١٧). وهو أيضاً واضع أسس النظام المملوكي الذي اعتمد على تدريب وتعليم عبيد فتيان يجلبون من آسيا الوسطى والقفقاس وتحريرهم بعد إتمام تدريبهم الذي يستمر عادة إثنى عشرة سنة لكي يتسلموا منصباً في الجيش المملوكي ويصعدوا في الرتب إلى أعلى الدرجات بما في ذلك رتبة السلطان.
تزوج الظاهر بيبرس العديد من النساء وأنجب عشرة من الأبناء: ثلاثة ذكور، وهم بركة خان، بدر الدين سلامش وخضر، وسبع بنات، وكان قد رتب وراثة الحكم من بعده لابنه بركة خان، وأخذ له البيعة من أمراء الجيش وكبار الدولة، ولقب بالملك السعيد وتزوج ابنة الأمير قلاوون،
ثم تولى أخوه بدر الدين سلامش الحكم، لكنه لم يدم طويلاً لأنه كان صغيراً في السن، فتمت تنحيته وانتهى بذلك حكم ورثة بيبرس وانتقل إلى الأمير قلاوون
مع أن الظاهر بيبرس هو من وضع أسس النظام المملوكي العسكري الحازم وجعله الطريق الوحيد للصعود إلى ذرى السلطة، فهو لم يسلم من الميل الطبيعي لتفضيل ابنه البكر الملك السعيد محمد بركة خان على أصحابه من أمراء المماليك لكي يخلفه في السلطنة. وعلى الرغم من أنه أحاط نفسه بمجموعة من الأمراء الكبار الذين ساندوه في بداية حكمه والذين كان كل منهم ملكاً صغيراً بمماليكه الكثر وثروته الهائلة التي جمعها من الإقطاعات والامتيازات، فإنه سرعان ماغّير أسلوبه في التعامل معهم بعد تعيينه ابنه كولي عهد له عام ١٢٦٤ والصبي لما يتجاوز الرابعة من عمره. فهو قد قدم بركة خان عليهم وعينه على رأس وظائف مهمة في الدولة انتهت بأن عينه سلطاناً مشاركاً وهي بدعة لم تعرف من قبل. وأخذ العهود والمواثيق من أمرائه كلهم لقبول ولايته وقمع من شك بإخلاصه أو رأى منه طموحاً زائداً وسجنه. ثم قام بيبرس بتزويج بركة خان بابنة الأمير الكبير قلاوون الألفي وهو أحد أكابر المماليك الصالحية من رفاقه القدامى وأحد أهم المتنفذين في الدولة ليضمن ولاءه وولاء الأمراء الصالحية. ولكنه في ذلك خالف قاعدة وضعها هو نفسه واستخدمها أصلاً في الوصول إلى السلطة، ألا وهي قاعدة رفض التوريث في النظام المملوكي وإعطاء العرش لأقدر الأمراء الكبار عند وفاة السلطان أو قتله
وهكذا وصل بركة خان للسلطنة عام ١٢٧٧ في جو مشحون واضطر لإخفاء نبأ وفاة أبيه فجأة في دمشق، ودفنه لاحقاً فيها، ليتاح له ترتيب أمور الوراثة. وساعده في ذلك أمراء أبيه من المماليك الظاهرية الذين شكلوا الثقل الموازن لنفوذ الأمراء الصالحية الكبار من أصحاب الظاهر بيبرس وبشكل خاص الأمير القدير والمحنك بيليك الخازندار الذي كان مستودع سر الظاهر بيبرس والذي رتب الأمور لبركة خان ولكنه مات فجأة بعد أشهر قليلة من وفاة معلمه بيبرس في ظروف غامضة، وقيل أن بركة خان نفسه دس له السم لخوفه من تعاظم نفوذه. على حين قبل الأمراء الصالحية بالأمر الواقع وقبعوا يتنظرون ريثما تصفى الأجواء ويتاح لهم الاتفاق على أي أمير كبير منهم سيزيح بركة خان ويجلس مكانه على العرش على عادتهم. ولم يدرك بركة خان، الفتى الذي لم يتجاوز التاسعة عشر عند اعتلائه سدة العرش، المخاطر التي تتهدد عرشه ولم يتخذ مايكفي من الاحتياطات لمواجهتها. فهو على الرغم من حسن شكله وشبابه وسخائه وقلة أذاه مما جعل العامة تحبه، لم يتمتع بما تمتع به أبوه من دهاء وحنكة وسياسة، ولم يحسن اختيار أمرائه المقربين، بل أحاط نفسه بمجموعة من الأمراء الخاصكية صغار السن والأغرار أيضاً والذين تربوا معه في المكتب. وتخبط بركة خان في قراراته كثيراً محاولاً تقديم خاصكيته وإبعاد أمراء أبيه من الصالحية والظاهرية سوية، وفشل في ذلك فشلاً ذريعاً. وقد استغل هؤلاء الأمراء الصغار نفوذهم الطارئ للصعود والثراء بشكل اعتباطي ونزق مما زاد من نفرة الأمراء الكبار من السلطان.
إنفجرت الأمور في وجه بركة خان بعدما تمرد نائب دمشق عليه وخرج عن طاعته في ١٢٧٩. وتدهورت الأمور بسرعة عقب ذلك وتحالف جمع كبير من الأمراء الصالحية والظاهرية ضد السلطان وخاصكيته. وانتهت الأمور بعد عدة مناورات إلى أن وجد بركة خان نفسه محاصراً في قلعة القاهرة وقد انفض معظم أمرائه من حوله. فاضطر عندئذ للانصياع لرأي الأمراء الكبار وعلى رأسهم حموه وأبو زوجته قلاوون الألفي والتنازل عن العرش والذهاب منفياً إلى قلعة الكرك في الأردن في ١٢٧٩. ورتب الأمراء لأخيه الصغير بدر الدين سلامش الذي لم يتجاوز عمره السبع سنوات لكي يرقى العرش بعده. ولكن الأمير القوي قلاوون، الذي نصب نفسه أتابكاً (أي وصياً) على سلامش مالبث أن أزاحه عن العرش بعد ثلاثة أشهر واعتلاه مكانه بعد أن رتب أمور المملكة لمصلحته. ونفي سلامش والأخ الثالث خضر إلى الكرك حيث كان أخوهما الأكبر بركة خان منفياً قبلهما. ولم يلبث بركة خان أن توفي في الكرك بعد أشهر قليلة في ظروف غامضة أيضاً عن عمر لايتجاوز الواحد والعشرين. وقد سرت شائعات في القاهرة ودمشق بأن حموه قلاوون قد بعث إليه بمن دس له السم لكي يزيحه من الطريق، مع أن قلاوون قد أظهر حزناً شديداً عليه وجلس للعزاء فيه أياماً في القاهرة. وانتقلت السلطنة من الأسرة الظاهرية إلى الأسرة القلاوونية حيث استقرت لأكثر من ثمانين عاماً تناوب خلالها على العرش خمسة عشر سلطاناً من أولاد قلاوون وأحفاده وأحفاد أحفاده قبل أن ينزعهم أمير قوي آخر هو برقوق ويقضي على سلالتهم بطريقة شبيهة جداً بمافعله قلاوون من قبل.
بعد موت بركة خان في قلعة الكرك، نقلت والدته جثمانه إلى دمشق حيث دفنته إلى جانب أبيه الظاهر بيبرس في القبة التي كان هو نفسه قد أنشأها من دون أن يتنبأ بأنه سينتهي بعد فترة وجيزة مدفوناً فيها. ومن سخريات الأقدار أن المستولي على العرش قلاوون هو من زخرف المدفن والمدرسة وأضاف زنار الفسيفساء الرائع والرخام المزوق المنمنم حول القبة وزاد من أوقافها وأوقاف المدرسة الملاصقة لها ورتب فيها دروساً وقراءاً. ولعله فعل ذلك وفاءاً لذكرى صديقه بيبرس أو دفعاً للتهم بأنه هو من قضى على الأسرة الظاهرية أو حتى كفارة عن ذنبه في إقصاء بركة خان عن العرش وربما قتله أيضاً.