عاجل

نتنياهو يعقد مشاورات بشأن وقف إطلاق النار مع حزب الله في لبنان
تل أبيب تتعرض للقصف للمرة الثالثة خلال أقل من ساعة والخامسة خلال اليوم
مصر تتوج بذهبية بطولة العالم للكاراتيه بإسبانيا
نجم ليفربول محمد صلاح ينافس نفسه
غلق دفعة جديدة من شركات ومكاتب السياحة في مصر
ترامب يعرب عن قلقه إزاء تصاعد الصراع في أوكرانيا
الفرعون المصري محمد صلاح يسجل عدة أرقام مميزة
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما للعراق
“حزب الله” يشن هجمات صاروخية متواصلة وغير مسبوقة على إسرائيل وتداول مشاهد للدمار
تفاصيل مقتل طالب على يد خاله في كفرالشيخ
بطريق أسيوط الغربى..مصرع 5 أشخاص وإصابة 19 آخرين فى تصادم سيارتين ميكروباص
الرئيس الأوكراني يبحث مع وزير خارجية التشيك قضايا الدعم الدفاعي
الاحتلال الإسرائيلي يقصف محطة الأكسجين في مستشفى كمال عدوان
جيش إسرائيل.. دفاع أم عدوان؟ (1)
جوارديولا يحقق رقما سلبيا في مشواره التدريبي

# الرجوع هاجس كل من يغادر

بقلم دكتورة / أماني فؤاد

تترك الحروب والنزاعات – وما تسبِّبُه من نزوح وشَتات وحَيرة بين الهُويَّات المختلفة – تشوهاتٍ غائرةً فى النفْس البشرية، وفيما لا يدركه مشعِلو الحروب، أو بالأحرى يتجاهلونه؛ ترسِّخ لجروح عميقة لا تلتئم مهما بدا جسد الفرد سليمًا ظاهريا، كما لا يستطيع الزمن مهما امتد

تغنِّى (ليلى) «العراقية – الفرنسية» بالعربية، التى سعت بدأب لتعلُّمها فى فيلم «من عبدول إلى ليلى»:

اسمى فلانة/ كالريح أمشي/ عيونى عراقية، عربية/ روحى عراقية بقلْب أبيض فى زمن أسود/ حزنى من الموصل، بغداد، غزة، دمشق/ لملمت أشجانى بحثًا عن ملجأ/ رفيقى ياللا نحن سويًّا كالريح سنمشي/ كالطير سنرجع.

(الرجوع)، الرجوع هو الهاجس المُلِح، الذى يسكن كل من يغادر وطنه، لغته، ثقافته، وموروثه، كل من يشعر بأنه عالق بين عالَمَين وثقافتَين، العودة إلى الأصول، والحنين إلى الأرض الأم، شىء بداخل كل إنسان حُر يرفض الجبر والعدوان، وانتهاك البعض لحرية البَشر وعيشهم الآمن، واغتصاب الأرض وثورات الأوطان، اغتصاب الحياة ذاتها، الرجوع هو اللحن الذى يظل يعاود تكراره فى كيان وأذن كل من يضطر إلى الرحيل رغمًا عنه.

عُرض فيلم «من عبدول إلى ليلى» بمهرجان الجونة 2023 فى مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، إخراج وكتابة وتمثيل (ليلى البياتى)، التى تحمل الجنسيتَين العراقية والفرنسية، وفاز الفيلم بجائزة «نيتباك» المخصَّصة للسينما الآسيوية.

يدور الفيلم حول فتاة تفقد ذاكرتها بعد حادث سَير فى ألمانيا، تتماثل للشفاء، ثم تبدأ فى البحث عن ذاتها، ترمِّم جسدها وذاكرتها بالغناء والموسيقى والرسم، الغناء الذى تعلن – منذ الوهلة الأولى – أنها تعشقه، كبديل أفضل من الكلام، لكنها تشعر فى أعماقها بشىء يناديها إلى الأب والعراق، تعرّفت فى ألمانيا على عدد من العرب المقيمين فى أوروبا، هجَّرتهم الحروب المأساوية فى العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من دول، جميعهم يعانون المصير ذاته، حتى إن أحدهم أخبرها: إنه لم يعد يتأثر بالموت، الذى أصبح ملازمًا لقصصه وتكوينه؛ جَرَّاء الحروب التى عايشها؛ فتبكيه ليلى، وتبكى ذاتها، تنتحب على الجميع، ليلى الفلسطينية والسورية والليبية والسودانية واليمنية، تقرر السفر إلى فرنسا لزيارة أبيها الذى يرسل إليها أشعاره، وتعلم اللغة العربية، وإعادة الفجر فى التاريخ.

تتجمع حكايات ومَشاهِد الفيلم الانتقائية التى تتداعى بحُرية وبأصوات متنوعة؛ لتفصح عن معاناة ليلى، بطلة العمل السينمائى، ليلى ابنة أب عراقى كان من أعضاء حزب البعث، نُفى مع صدَّام إلى القاهرة بعد اعتراضه على سياسات الحزب، وإيمانه بأن الديمقراطية هى الحل للكثير من مشكلات العراق والمنطقة العربية، ثم عاد إلى بغداد؛ فسُجِن وعُذِّب، خرَج من سجنه ليختفى فترة هاربًا فى وطنه، ثم هاجر إلى باريس، التقَى عبدول بفتاة فرنسية وتزوجها، وعاشا فى الريف الفرنسى، خلَق عبدول وطنه العراقى هناك، زرَع الزيتون والنخل الذى يحكى عِشقه له، يتلذَّذ وهو يصِف حركة سعْف رأس النخلة الراقصة حين تهُب الرياح، النخلة المحتفية بذاتها، يشبِّهها براقصة شرقية تتمايل مزهوة بحركتها الموسيقية، هذا العشق للنخيل الذى يمتد إلى العراق، والذى يخاتله طيلة الوقت.

تتوزع مَشاهِد الفيلم، الذى تروى أحداثه البطلة ليلى مع أصوات أخرى، مثل «عبدول» الأب، والأم الفرنسية، وبعض الأصدقاء، مَشاهِد للتوثيق، توثيق رحلة هذا التاريخ الطويل، واستدعاءات من الذاكرة التى لم تزَلْ نشطة، ويتم عرْض هذه المَشاهِد بطريقة التداعى الحُر؛ أى ليس وفْق نمط تصاعدى لزمن الأحداث. كما تأتى بعض المَشاهِد الأخرى حوارية، مثلما يشرح لها موجِّه مصرى- فى القاهرة أثناء تسجيل الأغنية – معنى «I am somenone»، كانت ليلى تظنها: «أنا لا أحد»، فيوضِّح لها أن المعنى هو «أنا شخص ما، لى اسم لا يهم أحدًا، وعليكم التعامل معى كإنسان». غنَّت كلمات أبيها بلكْنة غربية، لكنها مشحونة بالصدق والرغبة فى الوصول إلى جذورها.

من أجمل ما راقنى فى هذا الفيلم قدْر الوعى الذى يتسم به الحوار، الحوار بين الشخوص، أو حوار الذات مع نفسها، حيث تحكى ليلى عن أنها حُرّة، لا تريد أن تعيش فى حضن رجُل، لكنها تريد العَيش فى أمان، تغنِّى، وتتعلَّم العربية، وتغنِّى بها، تدرك ليلى ما تريد، تقول: «أحتاج إلى التواصل مع ما فاتنى» من تاريخ العراق، ومن اللغة العربية. بهذا الدافع الذاتى أحبَّت الكلام مع الناس فى الشوارع فى مصر، حيث تعيش أختها وحيث يقضى والداها فترة الشتاء، وأن تسمع الناس يتكلَّمون – على الرغم من الفضول المصرى وأسئلتهم: من أين؟ تعيشين وحدك؟ متزوجة؟ – أو حوارها مع معلِّمتها التى تدرِّبها على العربية.

يعتمد وعى ليلى على القدرة على الاستقلالية، وإدراك احتياجها العميق للرجوع إلى جذورها. وأحسب أن تربية هذا الوعى تتأتَّى من التعليم والثقافة الحقيقية التى تلقتها بفرنسا، الثقافة غير الادعائية.

وتعتمد تقنيات صناعة هذا الفيلم على تضافُر أنواع مختلفة من الفنون، حيث الأفلام المصنوعة بضَفْر الغناء والموسيقى والرقص والرسم.

لفَت انتباهى فى الفيلم الرسومات التى تقوم ليلى بتخطيطها وتلوينها طيلة الفيلم، والتى عادةً ما تعبِّر عن امرأة بلا رأس، بلا ذاكرة، فتاة يخرُج من عينيها وجسدها خيوطٌ ممتدة، تتجه إلى لا طريق، الفتاة التى ليست ذات ملامح واضحة، حيث لا تركِّز عليها الكاميرا ذات التوجُّه الذى اختارته المخرجة لملامح شخصية ليلى الواقعية، ملامح غير محدَّدة، تمد خيوطها للخارج، للتاريخ والواقع؛ علَّها تجِدُ هُوَيَّتها اللغويةَ والثقافية، وقد تلتصق بهما.

فحين تطمس أحداث التاريخ ذوات البعض ممَّن عانوا ويلات النزاعات والحروب، وتتسبَّب فى تشظِّيها وتشتُّتها؛ يدافع الإنسان عن وجوده، ويتشبَّث بجذوره، يوجد معنى ومسوِّغ لوجود له هُوَية خاصة.

كما تجدر الإشارة إلى أن الفيلم لا يعتمد على دراما صارخة، ولا التباكى على ما كان، قدْر ما يوضِّح بطريقة إنسانية فنية راقية قدْر العذابات التى تترُك أثَرَها على البَشر، الذين تتفكك أوطانهم.

فى هذا الفيلم الإنسانى، الذى يعتمد على مهرجان من المُتع لأنواع فنية متنوعة «غناء ورسم وموسيقى»، تظهر بعمق آثار سياسات الانفراد بالسُّلطة المطلَقة، والقمع والتعذيب والنفى من الأوطان، آثار احتلال أمريكا للعراق، وكيف انطبع هذا على حياة البَشر البسطاء العاديين، حيث تتركهم هذه الممارسات بإعاقات متعددة، إعاقات نفسية عميقة تحفُر فى الروح الضياعَ والخوف، وضبابية الرؤية، كما يتركهم الشتات مزدوَجِى الهُوَيَّات، يبحثون عن أصولهم التى تخاتلهم؛ لكنهم لا يعرفون عنها شيئًا، يشعرون بعدم الأهمية التى تجسدها الأغنية التى ظلَّت تتردد طيلة الفيلم: «أنا لا أحد، أنا لا أعرف الحقيقة من الوهم».

تتعجب أم ليلى، المدرِّسة، من عدم تدريس اللغة العربية فى المدارس الفرنسية، على الرغم من كثرة أعداد الجاليات العربية، مقارنة بلُغات تدرَّس فى فرنسا كالإسبانية والبرتغالية. وتشير إلى أن هذا النقص يربك جيلًا جديدًا يجهل جذوره جهلًا قد يغذِّى العنفَ. كما تشير الأم الفرنسية إلى أن أبناء العرب فى باريس يتعلمون العربية عن طريق شيوخ الدين، وفى نطاق حفْظ الآيات وبعض التفسير البسيط، لا يتعلَّمونها بتتابعها ومنجَزها الحضارى؛ لذا لا يشعرون بانجذاب إليها، كما أنهم لا يشعرون بتضمُّنها قيمة كبرى، لذا أصبحت الأجيال الثانية والثالثة غير مهتمة بها.

ما دفَع الحيوية – فى هذا الفيلم، فى اعتقادى، رغم عتمة مَشاهِده، ومأساويَّتها العميقة، واعتمادها على التوثيق للأحداث التاريخية، التى حدثت بالفعل، ويمكن توقُّعها – غِنَى الصورة، وتنوُّع الإيقاعات والأغانى، التى تشكِّل بنية السيناريو السينمائى ذاته، وأيضًا المَشاهِد التى ترسم فيها ليلى نفسها، وتستحث ذاكرتها على العودة والقدرة على البوح، فتضرب بفرشاتها فى كل الألوان، كما أنها فى أحد المَشاهِد تنشب أظافرها فى اللوحة وألوانها، فى الفراغ والمظلل؛ لتحفُر قِصتها، وحكايات البشر، الذين عانوا من الشتات والهجرة عن الأوطان، بأجيالهم الأولى والثانية، وربما الثالثة. كما أنَّ الانتقالات المكانية والزمنية السريعة، والتقافز بين الحكايات بتعدُّد الأصوات؛ أعطَوا الفيلم حيوية ودهشة تجعل المُشاهِد منجذِبًا للمتابعة ومأخوذًا بهذا التنوُّع والثراء فى القوالب الفنية.

Facebook
Twitter
LinkedIn
WhatsApp
Print
booked.net
موقع الرسالة العربية