المقال ده عظيم جدا و قريب للقلب جدا .. لدكتور احمد خالد توفيق رحمه الله
ذات مرة اضطرتني الظروف واضطرني النحس إلى المشي في حي عشوائي مرعب على أطراف المدينة، فلاحظت أن سكان الحي الفقراء ينظرون لي نظرة شرسة متوعدة .. النساء يرمقنني في شك وكراهية، والأطفال يركضون خلفي لكن على مسافة معقولة لأنهم خائفون مني، والفضول يمنعهم من الابتعاد. هنا فطنت إلى أنني أبدو أنيقًا متغطرسًا أكثر من اللازم .. أكثر مما يستريحون له. ولا أعرف كيف نجوت من هذه المغامرة على كل حال.
بعد أسبوع كان علي أن أقابل رجلاً في أحد الأحياء شديدة الرقي والثراء.. سيارات فاخرة من أحدث موديل، بحيث بدت سيارتي جوارها أقرب إلى صندوق قمامة ألقاه أحدهم هناك. لاحظت نظرات الدهشة والعدائية التي يصوبها لي كل من ألقاه هناك، وعندما أردت دخول تلك البناية استوقفني حارس الأمن ليعرف من أنا بالتفصيل. نظرت لنفسي في المرآة العملاقة خلف الحارس فعرفت السبب .. أنا أبدو رث الثياب مريبًا وفقيرًا أكثر من اللازم..
هكذا عرفت أنني أنتمي لمعسكر الوسط في كل شيء.. ليس لي مكان في مجتمع الأثرياء لكن مجتمع المعدمين لا يقبلني كذلك ..
لو تهددك واحد وأنت في معسكر الأثرياء فلا مشكلة لأن البودي جارد الخاص بك من الرجال صلع الرؤوس ذوي السترات السوداء سوف يحيطون بك لحمايتك، ولو تهددك واحد وأنت في معسكر الفقراء فلسوف يحيط بك أفراد عصابتك المدججون بالعصي الثقيلة والجنازير وزجاجات الحمض.. أما عندما تكون في الوسط فأنت تُضرب في جميع الحالات ..
في أيام الكلية كنت أحب (هيام) زميلتي، وكانت تعجب بحيويتي وشبابي لكنها لا تعجب بفقري وإفلاسي، وترى أنه من الشجاعة الخارقة التي تدنو من الوقاحة أن أتقدم طالبًا يدها من أهلها. أبي قال لي إن هذا مستحيل .. وهكذا قررت أن ألعب دور الفتى الذي تحطم قلبه، وسهرت أيامًا أكتب الشعر الرديء جدًا وأشرب أكوابًا من الشاي الثقيل الأسود .. تؤلمني معدتي من الشاي فأحسب هذه آلام الجوى وقروح الفؤاد التي يتكلمون عنها.
قضيت عمري أحاول جمع المال .. ثم صار لديّ ما يسمح بأن أطلب يد (هيام).. بحثت عنها فوجدتها قد صارت امرأة بدينة مرعبة ولديها خمسة أطفال لا تكف عن صفعهم .. هنا وجدت فتاة تشبه (هيام) الشابة تمامًا .. لها نفس الطباع ونفس اللمسة الرقيقة الحزينة. طلبت أن أتقدم لها لكنها نظرت لي في تأمل طويل، ثم قالت:
ـ”أنت في وضع مادي لا بأس به، لكن معذرة .. لا توجد شعرة واحدة سوداء في رأسك .. ألم يخطر لك أنك لو تزوجت في سن العشرين لكانت عندك ابنة في سني ؟”
ثم راحت تمتحنني:
ـ”هل تعرف آخر أغنية لـ (تامر حسني) ؟.. ماذا تعرف عن (جورج وسوف) ؟.. ما هو تشكيل خط الوسط للفريق الأهلي ؟.. ما هو آخر فيلم لليوناردو دي كابريو ؟ ”
طبعًا لم أنطق ..
معها حق ..
أنا في معسكر الوسط .. السن الوسطى حيث لم يعد بوسعك الظفر بهيام، ولا تريد واحدة أخرى تصفع أطفالها ثلاث مرات يوميًا ..
حتى لو قررت الزواج بلا حب … أنت لن تتزوج (عطيات) الفتاة الفقيرة الجميلة حارة العواطف فهي ليست من طبقتك، ولن تتزوج (إنجي) الفتاة الأرستقراطية المدللة التي تلعب التنس وتسافر لأوروبا مرتين كل عام .. سوف تتزوج عروسًا من الطبقة الوسطى هي (إلهام) ابنة الأستاذ عبد الجواد معلم الجغرافيا، وهي تؤمن أن الارتباط بك ثمن باهظ لابد من دفعه مقابل الظفر ببيت وأطفال .. توطئة لأن تصير أمًا لخمسة أطفال تصفعهم طيلة اليوم ..
نعم .. مشكلة أن تكون رجلاً في الوسط مشكلة عويصة في علم الاجتماع، تحتاج إلى مقال أطول. لكنني لن أستطيع المرور عليها مر الكرام كما يفعل الرجل العادي، ولن أستطيع كتابة دراسة أكاديمية متخصصة عنها، لأنني في الوسط بالضبط بين الجاهل والأكاديمي !