بقلم الكاتب الكبير / عبد المحسن سلامة
إذا أردت أن ترى أكبر متحف للفقر فى العالم فلتذهب إلى الهند، كانت هذه مقولة شائعة عن الهند وأوضاعها الاقتصادية الصعبة قبل وبعد استقلالها عن الاحتلال الانجليزى فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات.
استقلت الهند فى عام 1947 بعد مقاومة عنيفة وعصيان مدنى بقيادة حزب المؤتمر الوطنى الهندى بزعامة مهاتما غاندى وجواهر لال نهرو.
تزامن هذا الاستقلال مع استقلال باكستان مما أدى إلى تزايد حركات العنف المسلح والتهجير، وفقدان ما يقرب من المليون مواطن أرواحهم وتهجير أعداد كبيرة من الجانبين.
نجحت الهند فى التخلص من أوجاعها ومشاكلها ومؤخرا نجحت فى إزاحة المستعمر الانجليزى عن مكانته الإقتصادية لتحتل مكانه وتصبح خامس أكبر اقتصاد فى العالم، وتتراجع بريطانيا لتصبح سادس اقتصاد فى العالم فى ضربة قاصمة للحكومة البريطانية، وطاقة أمل لكل الدول الناشئة بقدرتها على تغيير واقعها إلى الأفضل مهما تكن التحديات والظروف.
من هنا تأتى أهمية الزيارة التى قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الهند خلال الأسبوع الماضى بعد أن تحولت الهند إلى تجربة اقتصادية ملهمة فى وقت تتحرك فيه الدولة المصرية بقوة لتخطى عقبات الأزمات العالمية، والتحول إلى نمر اقتصادى واعد خلال المرحلة المقبلة.
الهند استقلت عام 1947، ومصر استقلت عام 1952، وكان بين الزعيم جمال عبدالناصر والزعيم الهندى جواهر لال نهرو علاقات قوية ووطيدة مهدت لهما تأسيس حركة عدم الانحياز عام 1961.
ولدت الحركة نتاج فكرة مشتركة من الزعماء جمال عبدالناصر، ورئيس الوزراء الهندى جواهر لال نهرو، والرئيس اليوغسلافى جوزيف تيتو، وتم الاعلان عنها خلال مؤتمر باندونج عام 1955، وانعقد مؤتمرها الأول فى بلجراد عام 1961 بحضور 25 دولة، وهى الدول التى أرادت أن تنأى بنفسها عن آتون الحرب الباردة التى كانت قد تصاعدت بين المعسكرين الغربى «بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية»، والشرقى «بزعامة الاتحاد السوفيتى».
أعتقد أن توقيت الزيارة شديد الأهمية على المستويين السياسى والاقتصادى نظرا لعودة الحرب الباردة مرة أخرى بشكل جديد وآليات مختلفة.
على المستوى السياسى يشهد العالم هذه الأيام حالة من الاستقطاب السياسى الحاد لم يشهدها منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار المعسكر الشرقى بقيادة حلف وارسو نتيجة اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية التى أوشكت على دخول عامها الثانى خلال شهر فبراير المقبل.
اندلاع الحرب الروسية ــ الأوكرانية أعاد مشهد الحرب الباردة بين المعسكرين الغربى والشرقى إلى الواجهة مرة أخرى، بل ان الأمور تخطت ذلك إلى احتمال نشوب حرب عالمية جديدة على أرض أوكرانيا أو خارجها.
هذه الأوضاع تؤكد مدى الحاجة إلى دور مصرى ــ هندى جديد على غرار ما حدث بين الزعيمين عبدالناصر ونهرو لتنشيط منظمة عدم الانحياز التى تراجع الاهتمام بدورها خلال السنوات الماضية بعد تفكيك الاتحاد السوفيتى، وانهيار حلف وارسو، إلا أن اشتعال الأوضاع العالمية، وازدياد سخونة الأحداث فى أوكرانيا، وتصاعد نبرة الحرب فى تايوان، يجعل من الضرورة أهمية تنسيق مصرى ــ هندى على أعلى مستوى لبلورة رؤية سياسية مشتركة لإصلاح هيكل الحوكمة فى النظام الدولى متعدد الأطراف بما فى ذلك ضرورة تحقيق إصلاحات شاملة فى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتوسيع فئتى العضوية من أجل تعزيز تمثيل الدول النامية.
تناولت المباحثات بين الزعيمين عبدالفتاح السيسى وناريندرا مودى رئيس الوزراء الهندى تسليط الضوء على الدور الريادى لمصر والهند فى الحفاظ على السلم والأمن الدوليين خاصة فى ضوء كونهما من بين أكبر عشر دول مساهمة بقوات عسكرية وشرطية فى بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام، مع تأكيد أهمية ضمان مشاركة البلدان المساهمة بقوات حفظ السلام فى عملية صنع القرارات المتعلقة بتلك البعثات.
أما الجانب الاقتصادى فقد احتل المكانة البارزة والأساسية فى المحادثات التى أجراها الرئيس عبدالفتاح السيسى هناك مع الزعماء الهنود، وقيادات مجتمع المال والأعمال حيث بلغ مستوى التبادل التجارى رقما قياسيا وصل إلى 7٫26 مليار دولار أمريكى فى العام المالى الماضى 2021/2022 رغم تحديات جائحة كورونا، وتستهدف الزيارة رفع حجم التبادل التجارى الثنائى خلال السنوات الخمس المقبلة ليصل إلى 12 مليار دولار.
هناك أوجه تشابه كبيرة بين التجربتين المصرية والهندية، وهناك مجالات متعددة ومفتوحة للاستفادة المشتركة بين الجانبين فى ظل تشابه الأوضاع الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية.
الاستثمارات الهندية فى مصر وصلت إلى 3٫15 مليار دولار أمريكى فى العام المالى الماضى، لكنها مازالت فى مرتبة متأخرة فى ترتيب الدول المستثمرة فى مصر حيث تحتل المرتبة الـ 36 بعدد شركات يصل إلى 372 شركة تعمل فى مجالات المنسوجات، والملابس الجاهزة، والطاقة، والكيماويات، وتكنولوجيا المعلومات، والمستحضرات الطبية وغيرها من المجالات.
أعتقد أن زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى الأخيرة للهند، وحفاوة الاستقبال، واستقباله كضيف الشرف فى احتفال الهند بـ«يوم الجمهورية» سوف ينعكس إيجابيا على جميع أطر التعاون بين البلدين خاصة فى المجال الاقتصادي، ومضاعفة الاستثمارات الهندية فى مصر فى قطاعات البنية التحتية، والبتروكيماويات والطاقة، والزراعة، والرعاية الصحية، والتعليم، وتكنولوجيا المعلومات.
من جانبها فقد رحبت مصر بتوسيع وزيادة الاستثمارات الهندية فى مصر، من خلال تخصيص منطقة للصناعات الهندية فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وقد رحبت الهند من جانبها بالمقترح المصرى من خلال إعداد خطة متكاملة لتحقيق هذا الغرض خلال المرحلة المقبلة.
كل ذلك يأتى فى إطار تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين ورفعها إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية، لتغطى جميع المجالات السياسية والأمنية، والدفاعية، والاقتصادية، والطاقة.
تأكيدا على ترجمة رفع مستوى العلاقة إلى الشراكة الإستراتيجية جاءت دعوة مصر كضيف الشرف فى يوم الجمهورية، ويمتد ذلك أيضا إلى دعوة مصر للمشاركة كضيف فى اجتماعات قمة مجموعة العشرين المقبلة المقرر عقدها فى الهند سبتمبر المقبل.
الزعيمان المصرى والهندى قررا العمل سويا خلال قمة مجموعة العشرين المقبلة من أجل تأكيد أولويات ومصالح دول الجنوب بحيث تحظى باهتمام وتركيز قمة العشرين باعتبارها أحد المنتديات العالمية الرئيسية الاقتصادية فى العالم.
التجربة الهندية تجربة ثرية وملهمة، وتصلح أن تكون نموذجا يحتذى فى التجارب الاقتصادية العالمية بعد أن نجحت فى أن تصبح خامس أكبر اقتصاد عالمى وفق مؤشر بلومبرج بعد الولايات المتحدة، والصين، واليابان، وألمانيا.
رغم كل الظروف العالمية التى أثرت سلبا على الاقتصادات العالمية فقد توقع صندوق النقد الدولى ارتفاع نمو الناتج المحلى الإجمالى الهندى هذا العام بنسبة 6٫1٪ بعد أن نجحت سياسات الحكومة الهندية الاقتصادية، فى التصدى للرياح الاقتصادية المعاكسة عالميا، والتى أدت إلى خلق ضغوط تضخمية، وتباطؤ معدلات النمو على مستوى العالم.
المؤكد أن الزيارة التاريخية التى قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الهند، ورفع مستوى العلاقات إلى الشراكة الاستراتيجية، سوف يسهم فى فتح أسواق جديدة للمنتجات المصرية، وزيادة تدفق السياحة الهندية إلى مصر، وكذلك زيادة الصادرات المصرية للهند وتعديل وضع الميزان التجارى بين الدولتين خلال المرحلة المقبلة، وبما ينعكس إيجابيا على الاستفادة المشتركة للشعبين المصرى والهندى وتنشيط العلاقات التاريخية التى تمتد إلى ٧٥ عاما، لتكون العلاقات المصرية ــ الهندية نموذجا يحتذى فى علاقات الجنوب ــ جنوب خلال السنوات المقبلة.