بقلم / شجون حسن
كان الناسُ زمانَ إذا أكلوا شكروا، وإذا وعدوا وفَوا، وإذا خاصموا أنصفوا. كانت الأخلاقُ دينًا لا يُدرَّس في الكُتُب، بل يُتوارثُ في البيوتِ كالميراثِ الحلال. وكانت الألسنةُ تحفظُ الجميل، والقلوبُ تصونُ الودّ، فلا يُنسى المعروفُ وإن مرّت عليه السنون.
كانت البيوتُ على ضيقها عامرةً بالرضا، والطرقاتُ على ازدحامها أهدأ من قلوبنا اليوم. كان الحياءُ ظلًّا يمشي مع الصغارِ والكبار، وكانت الكلمةُ الطيبةُ كالعطر، تسبقُ صاحبها أينما سار. لم يكن في العيون رياء، ولا في السلام تصنّع، وكانت المروءةُ فطرةً في النفوس، لا تحتاجُ إلى شعارٍ أو دعوى.
ثم تغيّر الزمان… تغيّر لا في الأرضِ ولا في السماء، بل فينا نحن، حين بدّلنا المروءةَ بالمصلحة، والصدقَ بالمنفعة، والحياءَ بالجرأةِ الفارغة. صار الإنسانُ يُقاسُ بما يملك لا بما يُقدِّم، وصار الكذبُ مهارةً يُكافَأُ عليها أصحابُ الوجوهِ البارعةِ في التمثيل.
غابت البساطةُ من حديثنا، فاختنقت الأرواحُ بزينةِ الكلام، وضاعت الطيبةُ بين السطور. لم نعد نرى الكبيرَ كبيرًا إلا إذا كان صاحبَ مالٍ أو جاه، ولم نعد نسمعُ صوتَ الضميرِ إلا حين نُخطئ في حقّ أنفسنا.
كان الناسُ إذا نظروا إلى السماء، شعروا أن الله يراهم، فاستقاموا. أمّا الآن، فننظر إلى الناس، وننسى الله، فنتلوّن كلّ يومٍ بلونٍ جديد. حتى القلوبُ الطاهرةُ صارت تخاف أن تُظهر نقاءها، كي لا تُتَّهم بالضعف أو الغباء.
يا ليتنا نعود كما كنا، حين كان الجارُ بابًا مفتوحًا لا جدارًا مغلقًا، وحين كانت الدعوةُ على فنجان شايٍ تُقيم صلحًا بين قلوبٍ اختلفت ثم تصافت. يا ليتنا نعود إلى تلك الأيام التي كانت فيها الكلمةُ الطيبةُ دواءً، والنظرةُ الحنونةُ شفاءً.
ما أكثر ما نُعلِّم أبناءنا اليوم، وما أقلّ ما نُربّيهم عليه. نعطيهم الشهاداتِ واللغات، وننسى أن نزرعَ فيهم شجرةَ خلقٍ تظلّهم حين تعصفُ الدنيا بهم. نعلّمهم كيف يربحون، لا كيف يعفون، وكيف يتقدّمون، لا كيف يتسامحون. ونسينا أن أعظمَ ما يُهدي الوالدُ لولده هو ضميرٌ لا ينام.
الأخلاقُ يا صديقي ليست ترفًا اجتماعيًا، ولا عنوانًا يُعلَّقُ في مدرسةٍ أو مؤسسة، هي أصلُ الإنسان، بها يُعرَفُ، وبها يُكرَّمُ، وبها يُذكَرُ بعد رحيله. فإذا ذهبت الأخلاقُ، ذهبَ كلُّ شيءٍ جميلٍ فينا، وبقيتْ أجسادٌ تتحركُ بلا روح.
وليس من العيب أن نُخطئ، لكن العيب أن نفقدَ القدرةَ على الحياء. وليس من الضعف أن نُسامح، بل من القوة أن نُطفئ الشرَّ بالعفو. إن الرجوعَ إلى الأخلاقِ ليس عودةً إلى الماضي، بل عودةٌ إلى الله.
فيا من سئمتُم الزيفَ وضجيجَ الأقنعة، عودوا إلى ما كان فيكم جميلًا، عودوا إلى القلبِ قبل أن يُغلق، وإلى الحياءِ قبل أن يُستبدَلَ بالجرأةِ المزيّفة، عودوا إلى الإنسانِ الذي كنتم، حين كانت الأخلاقُ عنوانَ الحياة لا زينتَها.























































